ساقان طويلتان لركض سريع.. للكاتب خليل نصيرات

الجسرة الثقافية الإلكترونية-خاص-

ثمة مسرح بجمهور وممثلين ومخرج وخشبة لكن أحد الجالسين في المقاعد الخلفية يدقق جيداً النظر وتبدو عليه علامات عدم الراحة، إنه يلاحظ أن الستارة غير موجودة على الإطلاق على جانبي المسرح، لا قماش من أي لون ولا من أي نوع كان حريرياً أم صوفياً أم من الكتان أم القطن الخالص، لا قماش ينسدل على طرفي المسرح، ثمة شيء ناقص، ثمة لوحة غير مكتملة.. هناك شيء يبدو غير مألوف وغير مريح بالنسبة لذلك الرجل الذي يجلس في أحد المقاعد البعيدة.
فلنقل إن هذا المسرح هو مقطع من الحياة، الحياة بكل احتمالاتها الواقعية أو تلك التي ينقلها لنا الفن، ولنقل أيضاً إن ذلك الرجل البعيد الذي يبدو منزعجاً أو مشوشاً تجاه شيء ما على المسرح هو المبدع.
التقط بعينه المفتوحة على الصورة كاملة هاجس النقص، هذا الهاجس الذي يسيطر على الموجودات في الحياة، فلا شيء يبدو مكتملا، ولا عينا تستطيع اكتشاف الزاوية التي تحتاج إلى لمسة سحرية لتكتمل أو بتعبير أدق لتبدو كاملة مثل المبدع، الباحث الدائم والمتتبع المخلص لزوايا حجر السقف، حيث تنغلق الجدران على مربع ليست بالضرورة أن تكون أضلاعه متساوية بالقدر الذي يجب أن تكون فيه مساحته تساوي قدرة ذلك الحجر الصغير على إكمال الفضاء الخاص به.
الإبداع الذي يريد من الشجرة أن تأخذ حقها كاملاً من الخضرة والمطر وأعالي أسوار الرصيف الذي تمتد أحياناً بعض الأغصان على بياضه وتجترح خربشات غير منتظمة على الاسمنت البارد وتحيله إلى فكرة حية.
أراه تماماً- أقصد الإبداع- في كل حقوله ومعانيه يوازي العلم والثورة أو الطفرة التكنولوجبة التي تتسارع مثل الجنون في العالم، فإذا كان العلم في كل ميادينه يخدم البشرية في تسهيل أمورها واختصار جهودها اليومية واقتصاد وقتها، فإن الإبداع يجعلها تستثمر الوقت المتبقي والذي أنقذه العلم ووفرته الاختراعات والاكتشافات الحديثة، في تكوين التخيل الخاص بسؤال: ماذا بعد؟ ولا أعني ماذا بعد هذا الاكتشاف وهذا الاختراع؟ فهذه عجلة لن تتوقف ما دامت على الأرض حياة وإنما أقصد: ماذا بعد هذا الحلم؟
وبعد هذا الحلم يظل حلم آخر وآخر، حتى تقلص التطورات العلمية جهد البشرية ووقتها في الركض وراء العمل والمال إلى وقت قصير جداً قد يحسب مستقبلاً في دقائق معدودة، عندها ينحاز الإبداع إلى منتهى الأنانية الخاصة بالسمو وحب الذات ويأخذ العالم بين يديه، مانحاً اللهاث ساقين طويلتين، وفارداً المساحة المتبقية لألوانه الخاصة يشكلها كيفما يشاء حتى تغدو الحياة بتصوره ورقة ملونة تتماوج على الطريق السريع الذي تقطعه الساقان الطويلتان.
وتستحضر الكتابة في الإبداع عندي الآن سؤالاً غزيراً: من صاحب نظرية الخيال؟ هل هو المبدع أم العالم، والحقيقة هذا ليس سؤالاً علمياً بقدر ما هو سؤال يتعلق بإكمال جملة تخص السماء مثلاً، فلو قلنا كلمة السماء.. وطلبنا من عالم أن يخبر عن المبتدأ فإنه حتما سيقول غائمة أو ماطرة شمسها ساطعة أو نجومها بعيدة أو ربما يصف لونها، لكن المبدع سيكتب خبراً لا يتعلق بالسماءه على الإطلاق، كأن يقول: السماء رملها كثيف، أو السماء سلم العاشق، أو السماء خيمة الجنون.
هذا هو الخيال الذي يسبق الإبداع ويشكله لكنه حتما يلحق بالتطورات العلمية والتكنولوجيا لحاق الظل بالجسد القائم تحت الضوء، أما وصف ذلك الظل وذلك الضوء فتتكفل به اللغة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى