الكتابة كحالة خلاص

*إبراهيم العامري

 

الجسرة الثقافية الإلكترونية-خاص-

 

كان آخر كتاب قرأته هو رواية “الحارس في حقل الشوفان” لـ ج. د. سالنجر، من ترجمة الكبير غالب هلسا، وهي الرواية التي تخلصت بها من انقطاعي عن القراءة لمدة ثلاثة أشهر، وعن إدمان مشاهدة الأفلام التي أرى فيها عوالم أكثر حقيقية مما نعيشه.
كنت طوال تلك الفترة أحاول خلع ما حولي لأهرب باتجاه حميم، ودافيء، أقل خشونة، وأكثر عمقًا، ومن المؤكد أن السينما التي تخلق لنا واقعا مشابها لما نعيش، يعرف صنّاعُها بكل ما أوتوا من حرفية أن المشُاهد على دراية تامة بأن الأفلام ليست حقيقية، وأنها صُوّرت بكاميرات رقمية أحترافية وباستخدام الكثير من الفلاتر، والمجمِّلات، الأمر الذي يجعل وطأة الألم الذي نشاهده أقل أثراً، وقابلاً للتجاوز على عكس ما تبثه قنوات الأخبار يوميا، ففيها تندلق الجثث، وتفوح رائحة القذائف، والدم.
ينطبق ذلك أيضاً على حالات الحب التي تصورها نجمات هوليوود، اللواتي يسيل لعاب قلوبنا عليهن، وهن يقدمن جرعات العاطفة الحارة لنجوم يحتفلون بصورهم على “انستغرام” وهم في صالات اللياقة البدنية.
مع نهاية كل فيلم كنت أتمدد كشجر يابس أحاول أن أكسِّر داخلي المتشابك لأعيد صياغة نفسي التي تصل مع أنتهاء كل مشاهدة، إلى حالة من التلاحم القصري، فأبدو متنقلا من مخيال إلى آخر لأجدني تائهًا في خيالات عديدة قد تشكلّني لكن لا تمنحني فرصة لأتعرف فيها على تقاسيم روحي، وكأن كل ما أراه صوراً لاهثة وراء الآت صماء تحيي العظام، وتبث الهواء الملون في كل بيت وناحية من هذا الكوكب الحزين.
كان آخر ما نشرته أيضا منذ عدة أشهر حين هربت إلى حضن العائلة ذات يوم، وكتبت أربع قصص قصيرة نُشرت في أحد المجلات العربية كحالة انتصار على كل انعدام الكتابة.
الكتابة إذن هي انتصار الكاتب لنفسه، أو معركة ناعمة، وخشنة في ذات الوقت تذيبنا في التفاصيل، وتُنبت لنا أجنحة تحملنا نحو الفضاء الأرحب، إنها كهرباء روحية تضيؤنا رغما عن الظلام الذي ينال من هذا العالم البائس.
قد يعيدني هذا إلى حالة التشدق التي يتغنى بها المنظِّرون حول ما يتم كتابته يوميًا على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، إذ يرون أن هذه الصفحات الزرقاء –خصوصا- أنتجت كتّابا رديئين قللوا من نخبوّية الكتابة، وعالمها العاجي.
المسألة مختلفة تماما -بوجهة نظري البسيطة- فمقدار ما نعاني منه من بؤس، وانعدام للوزن ينتج حالة من الصراخ، التي يمارسها المدونون والمغردون عبر صفحاتهم، ومن هواتفهم النقالة، أو حالة من الأنين، أو مناداة للغائب، أو البعيد، أو رقص خفيف على أرضية الاعتيادي الممل خصوصا في وطننا العربي، حيث يضرب تجّار الدين، والسلطة بهراواتهم رؤوس المفردات الاجتماعية ويحيلونها إلى إطارات لا يمكن الإفلات منها إلا عبر الكتابة؛ الكتابة فقط.
حاجتي للكتابة هي ما دفعني فجر هذا اليوم أن أمطتي سيارتي ذات “الموديل” العائد إلى العام 1998، والاتجاه صوب مقهى الشريف في العاصمة عمان، وكتابة ما يجول في خاطري نحوها قبل أن تنتهي كأس الشاي التي غافلني بها النادل من دون أن أطلبها، وقبل أن ينهي صديقي أسامة نرجيلته، ومشاهدة مقاطع فيديو لمغنية يحبها.
الكتابة فخ جميل كحالة حب نمارس بها الفرح رغم كل شيء، نخلع فيها قميصًا منهكًا نعلقه على مشجب الحبر وننجو.

* مدير التحرير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى