النوم تحت أي شجرةٍ مناسبة !.. إبراهيم جابر إبراهيم
الجسرة الثقافية الإلكترونية -خاص-
وحيدون .. وحيدون ومتوحشون .. وحيدون ومتوحشون ونبكي .
لأن كلَّ شيءٍ هنا مَلمسه معدنيٌ وبارد . لا أحد يسعل . لا أحد يضحك . لا أحد يموت بشكل كافٍ ، .. لا أحد يعيش كذلكْ .
( تتفاقم) تلك الاختراعات المسماة وسائل الاتصال السريعة، وبالتزامن، وبوتيرةٍ أسرع .. تتفاقمُ القطيعة!
تتكاثر البرامج النشيطة للتواصل: الماسنجر بأنواعه، الفايبر، الواتس أب، البلاك بيري، الهاتف المرئي، وعشرات الأدوات التي تستدرج البشريَّ للجهر والقول، .. لكنه في كل مرة يواصل التكوّم على نفسه، وينزوي، ويتراجع الى عتمته بألم!
ذلك أن برامج التواصل هذه تستدعي صوته، وهاجسه، لكنها لا تستدعي جثته،.. بل تقترحُ تجميده في مكان موحشٍ وضيّقٍ وقليل الهواء، حتى وإن كان خلف شاشةٍ لامعة!
هؤلاء الكثيرون الذين يرخون آذانهم لسماعي، (في البرامج)، لا يلمسونني، ولا يمدّون لي يداً عطوفة.. هكذا يقول لنفسه البشريُّ في عتمته!
لم يذوقوا طعامي مرّةً، ولم يختبروا درجات بيتي. والأغراب يظلّون أغراباً ما لم يروا دموعي رؤي العين.
لكنّ العلماء لا يحفلون بالبشريّ، والأجهزة لا تُصاب برجفة يد، وتظلُّ تلدُ اقتراحات جديدة لتواصلٍ بارد، وعائلة الكترونية مجففة!
عائلةٌ لا ترقص ولا تحتفلُ بالشمس أو تطلقُ الزغاريد ابتهاجاً، ولا تدفنُ موتاها في تراب حارّ؛ .. فكلُّ ما يحدثُ هنا يحدثُ فوق شاشةٍ لزجةٍ وبملابس ممغنطة!
السلامُ يتمُّ بكفّين مُعقّمتين، وأصوات الناس مصنوعة وفق موجات مطيعةٍ ومهذبة:لا نشيج، لا بحّة في الصوت، لا يترقرق بالرجاء، ولا يتنهنهُ ولا يرجفُ ولا تلمسُ سخونة الأصوات بيدك!
البشريُّ الذي كان له ثلاثة أشقاء وسبعُ شقيقات يُحضّرن فطوره، لديه الآن ثلاثة هواتف محمولة، وحزمة برامج للتواصل بنغمات مختلفة، يضعها أمامه في كهفٍ بعيدٍ وفاخر!
كهفٌ موحشٌ وناءٍ لكنه ليس من الصخر، وجدرانه خمائل من الموجات والأضوية الدقيقة، ترابهُ مدروسٌ بعناية، .. كهفٌ لا تدخلهُ الريح إن لم تكن تحفظُ رمز الدخول!
هنا يقيمُ البشريّ؛ قهوتهُ آليةٌ وبريدُهُ آليّ وأقرباؤه آليّون، وأفكارهُ حزمةٌ من الأسلاك .
لا دمَ على الأرض لكنَّ القتلى كثيرون.
من شقوق الكهف تدسُّ لهُ (الشركاتُ) كل يوم برنامجاً جديداً للتواصل، مرفقاً بقائمة من الرموز: وجه ضاحك، وجه عابس، وجه مستغرب، وجه يحمرُّ خجلاً، وجه مغتاظ، وجه يغمز بعينه، وجه يلاعبُ بلسانه، وجه يتساءل بحاجبه،…
ويضعُ البشريُّ وجوهه الكثيرة في خزانة ملابسه!
البشريُّ الذي كان من حقّهِ دائماً أن يركض حافياً وينامُ تحت أي شجرةٍ يجدها مناسبة، صار هو بضاعةً مربحةً للشركات تحرصُ على صحّته فينامُ على طاولة المختبر تحت عناية مشدّدةٍ من طاقم العلماء!
لكنّهُ لا يحلم.
طاولة المختبر لا توفر له ضمن رعايتها الحثيثة ترف الحُلم.
تلك عادةٌ سيئة انقرضت مع النباتات الخضراء وأصوات الأطفال، والناس الذين كانوا يقفون لا إرادياً للنشيد الوطني!