المسرح المستحيل.. لنحذر القلوب المثقوبة يا ديدمونة

الجسرة الثقافية الإلكترونية- خاص-

*خليل نصيرات

بلا خشبة ولا ستارة مسرحي هذا، بودي لو أرفع يدي مثل شرطي مرور وأصفّر على مرأى العيون الشاخصة إلى السقف، مسرحي مثل قاعة بيضاء واسعة، كل شيء فيها ناصع حد الموت، الموت ذلك الكائن الأبيض الخفيف الذي يلبس ثوب التعالي ويطير فوق الأجساد المرصوفة على الأسرة، أرواح تئن، والكائن الهوائي يحوم ويتطلع بعينين غير حزينتين على البلاط الأبيض حيث تنطرح الأجساد.
كل شيء أبيض حد انعدام الرؤية، هو يراهم جميعاً وهم يرونه لكنهم باستلقائهم على ظهورهم يحسبون أنه يمازحهم بتوعد يشبه وعيد العشاق حين يغارون، هكذا ينظرون إليه لكنه على الرغم من لا أباليته تجاه ما يفكرون يهتم بترتيب المشهد أمامه من فوق؛ فتارة ينزل ليعدل وضع كمامة الأوكسجين على أحدهم، وتارة يقفز ليمسح عرق أحدهم أو تأخذه رحمة غير معهودة ويرفع ظهر أحدهم إلى الجدار الأبيض، في الحقيقة هو لا يرى غير البياض، هو يرى ما يريده فقط، يهبط من الملل أحياناً ليمد قدماً مكسورة بجبيرة بيضاء أيضاً على مستوى قامة مريض، ربما يتسلى أو يعد الوقت الكافي للمشهد القادم أو ربما ينتظر أحداً ما ليدخل خفته البيضاء في روحه.
هو كذلك ينتظر امرأة ما، مثلما ينتظر كل الرجال النساء، فالموت بالضرورة مخلوق ذكري فاسق، يشتهي الأنثى شهوة قاتلة، يشتهيها حد انسلال الحياة، يمتص أنثاه كفكرة اكتمال، يحيا وهو يفكر فيها ويتلوى كشبح وهو يفرغ رغبته في أخمص قدميها، ويهتاج وهو يرى عينيها متثاقلتين زائغتين وخديها متغضنين مثل البياض.
الأجساد المنهكة تتململ مثل نمل أبيض، وملائكة اللعنة والأطباء يزحفون من بعيد مثل كتل كسيحة ويرتمون على الأرض رافعين عيوناً متلهفة إلى السقف، والكائن غير الصالح ينتظر مثل الجميع وفي ثانية مشرّبة بخشوع يتدلى من السقف ملكان، تهمس فتاة مصابة بثقب في القلب لعجوز تئن على الأرض بجانبها: إنهما العاشقان فيتضاءل الثقب في صدرها كثيراً، وتكمل بتيقن وهمس يشبه أنين الوجع: ديدمونة وعطيل، وهزت بأطراف لهفتها كتف شاب ينام على مقربة من الموت: “أيها النوم إنك تقتل يقظتنا” فتح الشاب عينيه ونظر إلى الأعلى حيث انزلق العاشقان على صفيح زجاجي يفصل بين العيون المشرئبة وبين السقف.
صوت يشبه الصدى يهدر من الأعلى: “لعن الله الحظ الذي وهبك للمغربي يا ديدمونة”، وحدها الفتاة صاحبة ثقب القلب ترى ذلك الفم الواسع للكائن الأبيض ينظر بفجور إلى ديدمونة ويلف حولها، وهي تحاول الانفلات من يدي عطيل القابضتين على عنقها.
المخلوق المهتاج يناول عطيل منديلاً حريرياً، وعطيل لا يراه بينما تسمع ديدمونة التي تجحظ عيناها صوتاً يتمتم في أذنها: “يا لك من حسناء شهية”، ثم ترى العيون الشاخصة من القاعة الكبيرة غباراً كثيفا بذرات ملونة تنتثر على سطح الزجاج، ووحدها الفتاة التي تنتظر زائراً تشهق بقلب مفتوح وهي ترى الشبح الأبيض يرش الغبار على الزجاج وعيناه محمرتان برغبة مجنونة.
تسقط ديدمونة على الزجاج وعطيل فوقها ويداه ما زالتا ممسكتين بعنقها، يشد عليها حتى يقطر جسده عرقاً ساخناً، جسده يتغضن بالرطوبة وعيناه تهميان على جسدها مثل ندف في صباح ضبابي، كل قطرة عرق تنز من جسده تلون جسدها المغطى بالغبار، وكل دمعة تقطر من عينيه الموجوعتين تصبغ قلبها بالأحمر، مثل كدمة حمراء كبيرة يستحيل جسدها العاري، يتلون من حرارة الألم من الأحمر إلى الأزرق المسودّ.
العيون المفتوحة لا ترمش، الألوان تجترح بياض القاعة وبياض المرض، وبينما يصل الزائر الشاب يحمل بين يديه ورداً أبيض لحبيبته صاحبة الصدر المثقوب، تشير إليه أن يستلقي بجانبها، يقبل رأسها ويضع الورد على صدرها فيستحيل فجأة أحمر مثل الغيرة حين تنفتح على الموت، يلف ذراعه على عنقها ويتابع معها المشهد الملون.
تتقلب ديدمونة بين يدي الملك، ولا تقاوم أصابعه المتشنجة، يستهويها التمرغ على الغبار الملون، يختفي اللون الأزرق المائل إلى السواد، ويصطبغ جسدها بالبنفسجي، اللون قبل الأخير للوجع، بعده لا لون إلا الأصفر بكافة أطيافه، تتلوى مثل جسد يلبي شهوة أخيرة، وإذ تحاول أن تشهق يبادرها ذات الصوت: “حبيبتي ديدمونة لنكن حذرين ولنخف حبنا”، تنفلت دمعة قهر من عينيها على يدي عطيل وترسم بقعة سوداء مثل الحرق، تترك ندبة سريعة وملتهبة.
يصرخ عطيل بحرقة وهو يرى يده تشتعل، ويشد أكثر وأكثر صارخاً مثل ثور هائج، يلف الكائن الأبيض منديلاً على عينيها فتغمضهما ديدمونة على دموع كثيرة لم تسقط، بينما اللعاب الكثير الذي يخرج مع صرخة الملك يحيل اللون البنفسجي إلى أصفر غامق، يضغط ويضغط وهي مستسلمة مثل عاشقة تمنح جسدها لحبيب، تسقط الدمعات الأخيرة من عينيه حين يحس ببرودة عنقها ويغلي الأصفر مثل النار في روحه، يبقى يفور ولا يهدأ، فيما بعض من الغبار يتساقط على الاجساد المستلقية على الأرض.
يحضن الشاب حبيبته بقوة، يضغط على صدرها المثقوب، تنظر العيون إلى الغبار المتساقط وتهجس بالألوان التي ستصبغ بياض القاعة وبياض الشراشف المرمية على الارض وبياض ملابسهم، لكن الغبار ما أن يستقر عليهم وعلى الأرض حتى يصير رماداً ناعماً بلون الحياد.
ينتبه الشاب المستلقي بجانب حبيبته أن ذراعه التي لفها حول عنقها ليحضنها تيبست عليها، يصرخ حين يحس ببرودتها، ولا أحد يسمع الصرخة إذ كانت تنفلت في أعماقه فقط ، لا يسمعها إلاالكائن الأبيض الذي تلبس جسد ديدمونة وهبط من فوق منسلاً مثل خيط ماء آسن إلى ثقب صغير في قلب الفتاة ليهمس في صدرها المجوف: “يا لك من حسناء شهية.. فلنخف حبنا ولنكن حذرين يا حبيبتي”.
*ناقد ومخرج مسرحي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى