الفيلم الوثائقي «هو أسماني ملالا»… صوت صغير ضد التطرف

عبد الله الساورة

الحكاية عبر السينما تغدو أكثر قوة واقناعا وتأثيرا في الجماهير، الملايين من المشاهدين في شتى أنحاء العالم شاهدوا الفيلم الوثائقي «هو أسماني ملالا» (2015) للمخرج العالمي دايفيس غوين هايم الحائز العديد من الجوائز العالمية، عن الطفلة الباكستانية ملالا التي امتدت لها يد الغدر والتطرف في التاسع من أكتوبر/تشرين الأول 2012 برصاصات في الرأس والعنق، وصلى من أجلها الملايين في العالم لتنجو.
الفيلم الوثائقي «ملالا» اختصارا .. هو استذكار للأسطورة الباكستانية عن طفلة تدعى ملالا اشتغلت إبان الحرب الأفغانية في نهاية القرن التاسع عشر وهي تداوي الجرحى والمعطوبين ولقيت مصرعها، لذلك سعى والد ملالا، زيدان إلى تسميتها بهذا الاسم تخليدا لهذه الطفلة الأسطورة.. ولم يكن يدري أن ابنته ستخلد أيضا أسطورة بالحصول على جائزة نوبل للسلام سنة 2014. هذا الفيلم الوثائقي الذي يستعرض مسيرة هذه الطفلة وهذه العلاقة التي تجمع الأب والطفلة وأخاها في مسارات التحدي تحت حكم حركة طالبان، ابتداء من سيطرتها على واد سات شرق البلاد ومنع تدريس الفتيات، وتتحدى ملالا هذا الحظر، بالمداومة على القراءة والذهاب للمدرسة، وبعد ثلاث سنوات وفي شبه تحد يجد بعض أعضاء من حركة طالبان الطفلة ملالا في المدرسة وبعد السؤال عما تفعل تجيبهم أنها تقرأ…. ويتم إطلاق رصاصات على عنق ورأس الفتاة.
يبرز المخرج هذه اللحظات التراجيدية في بكاء الأب والأم ومعهم تأسف الملايين واستنكارهم لهذا الفعل الهمجي، الغادر بمنع طفلة صغيرة من حق التعلم، ولا تزال كلماتها مدوية وهي تتسلم جائزة نوبل للسلام في وجه رعونة القتلة، وفي وجه الظلام الذي يريد أن يطبق على فعل القراءة كفعل للحياة «طفل، أستاذ، كتاب وقلم يستطيعون تغيير العالم. التربية هي الحل الوحيد».
فيلم حميمي عن أسرة تتبنى فعل القراءة وتعليم الفتيات في مجتمع تسود فيه الذكورية في أبشع تصورها وتشيئ المجتمع وتجعل من الأنثى فقط خلية لإنتاج النسل ووظيفة جنسية وجسدا يهان من دون أن ترقى إلى أن تكون إنسانة. مجتمع ينزع الطابع الإنساني من الإنسان ويجعله من دون عقل تابعا لأهوائه وغواياته التي لا تنتهي. مجتمع يتخذ من الانتقام والقتل والدم مشاهد يومية ويدعي دينا غير الإسلام المتسامح الذي تتعايش معه الشعوب والأعراق، دينا ليس حكرا على قبيلة واحدة وملة واحدة. يتابع الفيلم في لقطات جميلة تختلط فيها مشاعر الحب بمشاعر الاستنكار وفي لقطات قريبة متقنة ومنسجمة مع فكرتها الأساس عن شخصية صغيرة يقربنا المخرج من يومياتها وبسمتها التي تعلو ضد الهمجية والتطرف. قصة ظريفة وصوت صغير ينبع من الأعماق في وجه التطرف الأعمى الذي لا يفرق بين الطفل والرجل والكهل والمرأة، من يخرج عن «الإسلام» المرسوم مسبقا والمشبع بالعنف والقتل فهو مارق يستحق القتل.
تقترب الكاميرا كثيرا من الطفلة في المستشفى، في المنزل، في المدرسة في الخطابات الصغيرة لملالا وهي تتحدى حركة الموت لتبعث صورا للحياة. تقترب الكاميرا من فعل الموت وتنأى عن فعل الموت، وكأن المخرج يريد أن يذكرنا بلعلعة الرصاص والموت الذي لا ينتهي وبالتفسير والتأويل الوحيد للنصوص، من دون أن تقترب الطفلة بوعي أو من دون وعي من المقدس الذي يراق على جوانبه الدم.
يتحدث المخرج ويسهب في الحديث عن الإسلام السياسي والإسلام المتطرف والحركات التي اتخذت من الموت وسيلة للحياة، ومن الحياة، فعلا لا يستحق الحياة. تبتعد الكاميرا لتعود بِنَا إلى الأب الذي ناضل من أجل تعليم الفتيات الصغيرات في وضعية صعبة، وعن تلميذات صغيرات في وضعيات صعبة ليذكرنا بالفيلم الإيراني «الدفتر» الذي تعاني بطلته الصغيرة ذات الخمس سنوات من صعوبة الذهاب إلى المدرسة.
المخرج العالمي دافيس غوين هايم الشهير سبق أن أخرج أفلاما وثائقية جعلته رائدا في هذا المجال بفيلمه الوثائقي «حقيقة غير مريحة» (2009)، حول التغيرات المناخية، ثم فيلم «في انتظار سوبرمان» (2010)، وهو محاولة جادة للتقرب من النظام التربوي وفهمه بشكل جيد وعن الثقافة الاستهلاكية في الولايات المتحدة الأمريكية زمن العولمة. وفيلمه الشهير عن فرقة الروك الإيرلندية (يو 2). مخرج استطاع الحضور بقوة في السينما الوثائقية العالمية بالتركيز على مواضيع من راهنية القرن العشرين والواحد والعشرين ليبحث فيها ويسلط مزيدا من الأضواء عليها بطابع إنساني وبصورة تنغمس في المعاناة لتخرج ساطعة ببهجة الحياة وحبورها. مشاهد ومتواليات مشهدية في سيناريو مرسوم بدقة يبحث عن ماهية الوجود الإنساني وفي الجدوى أن يكون الإنسان إنسانا في القرن العشرين، تصاحب هذه اللقطات مقاطع موسيقية ومونتاج ينوع بين الصورة الفوتوغرافية وبين الصور السينمائية تاركا للمتلقي فرصة التأمل وطرح الأسئلة.
ما الذي يجعل من مخرج أمريكي شغوف بحكاية طفلة منزوية في أرجاء العالم ويتكبد المشاق ليوصل صوتها وجرأتها وجسارتها ضد أفعال الهدم والدم وكبرياء الرجل وأسطورة الدين الأوحد؟
تجيب الطفلة ملالا.. إنه فعل الحياة وفعل التعايش والتسامح وفعل القراءة وهي تطلق ضحكتها مدوية على أن فعل الحياة فعل لا يقهر ويستحق الحياة.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى