«ظل النساء» للفرنسي فيليب غاريل: الحبُّ من وجهة نظر المرأة
سليم البيك
من اللقطات الأولى للفيلم المُصوَّر بالأبيض والأسود كالعديد من أفلام المُخرج، يمكن استرجاع أفلام «الموجة الجديدة» الفرنسية، لا يبدو «ظلّ النّساء» فيلماً جديداً متأثّراً بالأسلوب السينمائي الذي شاع في فرنسا في ستينيات القرن الماضي، أي لا يبدو حنيناً (أو نوستالجيا) لتلك الفترة، وكان جان لوك غودار وفرانسوا تروفو وكلود شابرول وآخرون أبرز أسمائها، بل هو أقرب ليكون فيلماً جديداً آتيا مباشرة من هناك، من تلك التجربة السينمائيّة، بلقطاته ومونتاجه وحتى حكايته، بشكل الحب فيها، وتبسيط المعقّد في هذا الحب. يمكن ملاحظة علامات «الموجة الجديدة» في الفيلم من المشهد الأوّل حيث يدخل العنوان كإطار مستقلٍّ مقتطِعاً المَشهد، وتمتد العلامات إلى نهاية الفيلم.
في مشهد بدا كأنّهُ مُصوّرٌ من منتصفه، يبدأ الفيلم الذي أخرجه وكتبه الفرنسي فيليب غاريل، ببطله بيير يقف مستنداً إلى جدار، بيده ورقة يقرأ منها وبيده الأخرى خبزٌ يأكل منه، نشاهده قليلاً وينقطع المشهد، ننتقل إلى غيره، ومن الجيد الإشارة هنا إلى أنّ واحدة من أبرز ميّزات «الموجة الجديدة» في فرنسا كان المونتاج، أي التّقطيع.
معظم مَشاهد الفيلم تُقطَّع كالمشهد الافتتاحي، على غير ما يمكن أن يكون المُشاهد قد تعوّد عليه، حتى صوت الرّاوي الآتي من خلف الكاميرا (فويس أوفر)، كان غير تقليدي، متوتّراً وسريعاً ومختصراً. وهذا نقوله الآن في 2016، حيث ماتزال التّقنيات الجمالية في «الموجة الجديدة» التي ظهرت في فرنسا قبل أكثر من خمسين سنة، جديدة بشكل أو بآخر، وملفتة.
بيير (ستانيسلاس ميرار) ومانون (كلوتيلد كورو) متزوّجان، يعيشان حياة فقيرة في باريس، يعملان معاً على تصوير فيلم وثائقي عن المقاومة الفرنسية إبان الحرب العالمية الثانية، والأهم أنّهما على علاقة حب قوية، من ناحية المرأة تحديداً، وذلك لأنّ حكاية الفيلم تبدأ ببيير يقيم علاقة مع متدرّبة في قسم الأرشيف اسمها إليزابيث. العلاقة الجانبيّة هذه في نظر بيير هي جنسيّة وحسب، أما إليزابيث فتريدها مكتملة، هو بشخصيّته الباردة واللامبالية والأنانية وهي بشخصيّتها العاطفيّة والحالمة.
لا يترك بيير زوجته من أجل عشيقته التي يستمر في زياراته إلى بيتها ليمضيان وقتاً، هو الوحيد الذي يمضيانه معاً ويكون على السّرير. يريد الإبقاء على الاثنتيْن، تسأله إليزابيث، مستغربةً، كيف يستطيع ذلك، يجيب ببلاهة لأنها الأمور كذلك وأنّه رجل والرجال كذلك وأنّه ليس ذنبه أن يكون رجلاً.
لاحقاً ترى إليزابيث زوجته مع رجل آخر في مقهى، يدها على خدّه، تراهما مجدّداً فتخبر حبيبها بذلك. فكرة أن تكون زوجته مع آخر تجعله يعود إليها، يواجهها بأنّها تخونه مع أحدهم، تعترف فوراً وتخبره بأنّها لن ترى الرّجل ثانية وفعلاً لا تراه، أما هو فيكمل علاقته السّرية بإليزابيث.
في حديث متوتّر بين الزّوجيْن تشير مانون إلى أنّه كذلك يخونها، قالتها بعفويّة مِن دون أن تعرف لمَ، لكنّه ردّ سائلاً عمّن أخبرها بذلك، فضح نفسَه فانفصلا لفترة. لاحقاً يلتقيان في جنازة مَن كان يروي لهما في الفيلم الوثائقي الذي كانا يشتغلان معاً عليه مشاهداته وبطولاته في مرحلة المقاومة ضد النّازية. هناك، تخبره مانون أنّ الرّجل كان يكذب عليهما، أنّه كان فاراً ولم يمكن مقاوماً، كأنّها تخبره بأنّ تشابهاً ما يجمع بين الرّجليْن.
بعد فيلم «الغيرة» لغاريل في 2013 الذي أتى من وجهة نظر ذكوريّة، حيث تسيء المرأة لحبيبها رغم ما فعله من أجلها، يطرح المخرج فيلمه الأخير من وجهة نظر نسائيّة، حيث يخون الرجل حبيبته رغم ما تفعله من أجله، إضافة إلى إيذائه عاطفياً لعشيقته. لدينا امرأتان هنا، كلٌّ منهما ضحيّة مكتملة لأنانيّة بيير وذكوريّته، كلٌّ منهما من طرفها، الأولى كزوجة والثانية كعشيقة.
لم يبتعد غاريل في فيلمه الأخير عن مجمل موضوعات أفلامه السّابقة (25 فيلماً طويلاً)، حيث للنّساء حضور جميل وقوي، وقد تناول مراراً العلاقات العاطفيّة في أفلامه الأخيرة التي أدى بطولتها ابنه لوي غاريل: «Un été brûlant» في 2011 و «La Frontière de l’aube» في 2008 و «Les Amants réguliers» في 2005، إضافة إلى «La Jalousie» في 2013.
اختير «L’Ombre des femmes» ليفتتح تظاهرة «أسبوعَي المُخرجين» ضمن مهرجان كان الأخير، وهي تظاهرة موازية في عروضها لعروض المهرجان، داخل المسابقة وخارجها، ولا تقل أفلامها جماليةً وجودةً وأهمّيةً عن تلك المعروضة في المهرجان، وقد تتميّز بفرادتها، وهذا الفيلم مثال على ذلك.
(القدس العربي)