مؤسس «الحياة» كامل مروّة في ذكراه الـ50: صحافي برتبة رجل دولة

سعد إلياس

«إن الحياة عقيدة وجهاد»، «قل كلمتك وامش»، عبارات رفعت بين العديد من العبارات في معرض الصور الذي نظّمته مؤسسة كامل مروة في الذكرى الخمسين لاغتيال أحد كبار رواد الحداثة في الصحافة اللبنانية والعربية كامل مروة، ابن الزرارية في جنوب لبنان.
سلّط المعرض الضوء على حياة الصحافي وإنجازاته الشخصية كمرجعية في الصحافة والسياسة وعلى صفحات ومانشيتات من جريدة «الحياة» منذ أن أسّسها عام 1946 والى حين اغتياله عام 1966، اضافة إلى افتتاحيات صحف عديدة عن يوم مقتله واعترافات القاتل عدنان سلطاني (23 عاماً) وكيفية إطلاق الرصاص عليه من مسدس كاتم للصوت في مكتبه وفيها، «ليس بيني وبين المغدور عداء شخصي وقتلته بسبب تأييده للأحلاف، ولم يدفعني أحد للقتل والأروادي ليس له علاقة بالجريمة».
وتضمّن المعرض صوراً لبيروت والرؤساء والكتاب والفنانين والشعراء ولشخصيات من لبنان والعالم من بينها الرئيس الشيخ بشارة الخوري والرئيس رياض الصلح وتشرشل ونزهته على طريق بيت مري، وشاه إيران وهو يتزلج في خليج جونيه والملك حسين يفوز بسباق السيارات، وكيف يبني لبنان نفسه في عهد الرئيس كميل شمعون عام 1955، ومشروع بناء ساحة الشهداء، وإضاءة بيروت لأول مرة عام 1958، إلى أول إطلالة للسيدة فيروز ومهرجانات الرقص الشعبي في بعلبك، وشق مغارة جعيتا، ومطار بيروت السابع بين المطارات العالمية.
وتسعى عائلة مروة من خلال هذا المعرض إلى إبقاء مسيرة الراحل، حيّة بعد 50 سنة على اغتياله. يأتي هذا المعرض استكمالاً لإعادة إحياء جائزة كامل مروة للصحافة، كعربون تقدير لمن واكب التطور في الصحافة الورقية قبل أن تبدأ الصحافة المكتوبة في هذا الزمن الدخول في مخاض يهدّد استمرارها.
وقال نجل الراحل مالك مروة في حديث إلى «القدس العربي» عن الهدف من إحياء الذكرى اليوم «إن هناك الكثير من الرجالات في لبنان الذين بنوا البلد حجرة حجرة وجاءت الحرب وانقضت على ذكراهم ووالدي واحد منهم، وقد رغبنا في الذكرى الـ50 التذكير بهؤلاء الأشخاص من رجالات هذا البلد الذين تمّ نسيانهم ولنظهر للجيل الجديد في هذا المعرض حياة هذا الشخص وكيف غطّت صفحات جريدة «الحياة» قصصاً عن لبنان، ولنظهر للعالم كيف كان هذا البلد قبل أن يسيطر عليه الفكر المافياوي، وفكر المحاصصة والزبائنية… فهؤلاء الأشخاص الذين غابوا لم يأخذوا حقهم، ربما بسبب الحرب إنما اغتنمنا الفرصة في الذكرى الخمسين لنضيء مسيرة هذا الرجل الذي لعب دوراً سياسياً ودوراً تجديدياً وتقنياً كبيراً في الصحافة».
وسئل يُقال إن كامل مروة كان أهم شيعي في تلك المرحلة وتخطى حدود لبنان ليلعب دوراً كبيراً بين السنة والشيعة، فهل دفع ثمن هذا الأمر؟ أجاب «الموضوع الشيعي كانت له أهمية ولكنه لعب دوراً كبيراً في تقريب وجهات النظر بين السنة والشيعة وبين النجف ومكّة، لأنه كان هناك خلاف على موضوع المقامات الشيعية في مكة، وهو لعب دوراً كبيراً مع المرجعية الشيعية آية الطاهر الحكيم في النجف وفي إعادة التواصل بين شاه إيران والملك فيصل، وربما دفع ثمناً عندما وصلت الحرب الباردة إلى هذه المنطقة ، وكانت هناك حرب باردة بين محور ممانعة كما نسمّيه الآن ومحور رجعي كما كانوا يسمّونه وقد يكون دفع الثمن».
وسئل لو كان والدك مازال حياً ورأى الأزمة التي تمر بها الصحافة الورقية التي كان من مؤسسيها ماذا كان ليفعل؟ فأجاب «كان تنبّه لهذه الأزمة لأنه كان مهنياً وصحافياً قبل أي شيء آخر، فهو تزوّج مهنة المتاعب وكان يعرفها بتفاصيلها وهو اخترع الخط العربي الذي تراه في الكومبيوتر حالياً Simplified Arabic وأعتقد أنه كان تحسّس هذا التغيّر وواكبه، ولكن أعتقد أن الصحافة الورقية في لبنان لها أسباب أخرى غير متعلقة بزوال الورق، بل لأنه لم يعد هناك أصحاب صحف صحافيون يعملون للمهنة وباتت هناك رؤوس أموال والقارئ واحد وأي كاتب في جريدة اليوم يكتب لقارئ واحد هو صاحب المطبوعة».

السياسي العربي القديم

عُرف كامل مروة بأسلوبه السهل الممتنع وبإيجازه في التعبير عن أفكاره. وكان غزير الإنتاج يسطّر يومياً ثلاث مقالات وتحليلات سياسية، إضافة إلى مقال أسبوعي مطوّل ينشره ايام الآحاد، ويوقعه باسم مستعار هو «سياسي عربي قديم».
كان له تعليقان سياسيان على الصفحة الأولى في خروج عن التقليد. الافتتاحية الرئيسية وكانت تحمل عنوان « قل كلمتك وامش»، وهو قول اقتبسه من الكاتب اللبناني أمين الريحاني، والافتتاحية الثانية كان عنوانها «عيون وآذان» ويوقعها بالاسم المستعار «حي». كما كان له أحياناً عمود في الصفحات الداخلية يحلل فيه الشؤون العربية أو الدولية ويوقعه باسم «مراقب» أو «مالك» بحسب الموضوع.

لكي تنفع الذكرى

وتحت عنوان «لكي تنفع الذكرى» وردت في المعرض مقتطفات من افتتاحية لكامل مروة نشرت في «الحياة « عام 1966 ، قبل اغتياله بيومين وجاء فيها «غداً هو الخامس عشر من أيار/مايو، ذكرى دخول الجيوش العربية – أو الموجود منها يومئذ- إلى فلسطين سنة1948 ، وما تسلسل بعد هذا الحدث من كوارث في فلسطين وخارجها، أدت إلى الوضع الراهن.
واليوم بعد مرورأعوام من الذكرى، نستطيع أن نقول إن الأمة العربية لم تستطع بعد الخروج من الهوّة، حتى تتسلق كتف الجبل من جديد، وإن الدول العربية المعنية بقضية فلسطين لم تصدق الوعد، ولم تؤد الأمانة، وأن الحركات الثورية التي بنت مجدها على فلسطين لم تخدم فلسطين، بل استخدمتها، وما تزال. ولنا على هذه الحركات مأخذان:
أولاً- طابعها العلني، فنحن نعتقد أن أي عمل جدي لفلسطين في هذه المرحلة يجب أن يكون سرياً، محاطاً بالكتمان التام.
ثانياً- تسليم الزمام إلى العقائديين المتطرفين، وبالتالي ربط قضية فلسطين بغير أهلها، ومثل هذا التسليم يزيد في توريط قضية فلسطين وفي تقطيع أواصرها بأصولها».
مرة أخرى سيقول القارئ، ما الحل؟
الحل، موعده ليس اليوم، إنه كامن في الغد البعيد، أولاً في مستقبل تطور القضية العربية، ثم في مستقبل الاتصال المرتقب بين العالم الإسلامي من جهة، والعالم المسيحي من جهة أخرى.
وهذا الحل يجب أن يبنى على أساس أن المعسكر الغربي هو وحده حامل مفاتيح هذه القضية، شئنا أم أبينا، فعلينا أن نتدبر أمرنا معه مع الزمن، حتى نبلغ غايتنا. وليس في الدنيا من صداقة دائمة، ولا عداوة دائمة، بل هناك مصالح دائمة، تتقلب دورياً والفرص لا تنقطع.
عامل العقل هو إذن العامل الأكبر المطلوب في هذه المرحلة، للتخطيط والإعداد. ويخيّل لنا أن جميع العوامل تتفاعل الآن باسم فلسطين، إلا ذاك العامل…».

اسباب اغتياله

ورد في مستند وزّعته العائلة أنه «مع حلول عام 1965، دخل العالم العربي في حرب باردة خاصة به، لم يكن أحد يتوقع شدة صقيعها. وكان قطبا هذه الحرب الرئيس المصري جمال عبد الناصر والعاهل السعودي الجديد الملك فيصل بن عبد العزيز. أما السبب الرئيسي لهذه الأزمة فكان انهيار الوحدة السورية المصرية، وتحول أنظار الرئيس المصري إلى اليمن، حيث قام ضباط يمنيون محسوبون عليه بقلب الحكم الملكي الإمامي هناك، فدخلت البلاد في حرب أهلية. وسارع عبد الناصر عندئذٍ إلى مساندة حلفائه الانقلابيين، مرسلاً آلاف الجنود المصريين لمؤازرتهم، الأمر الذي اعتبرته الرياض تهديداً مباشراً لأمنها. ولم ينفع عقد قمتين عربيتين استثنائيتين في الإسكندرية والدار البيضاء في رأب الصدع بين الطرفين.
وتزامن كل ذلك مع سباق إقليمي ودولي حثيث لوراثة بريطانيا في الخليج، مركز الثقل الإستراتيجي في الشرق الأوسط، التي كانت تتهيأ للانسحاب منه. فأخذ كل جانب يبني قواه على ذاك الأساس، ويخطط للوصول إلى أهدافه بشتى الوسائل. وقرر الملك فيصل عندئذ أن يجول على عدد من الدول العربية والإسلامية في أفريقيا وآسيا لبناء جبهة تضامن إسلامية تعزز سياسته الخارجية، لعله يعوّض بذلك استراتيجياً، ما كان يفتقر إليه من قوة عسكرية. وفي خطوة شديدة الدهاء، وغير عادية بالميزان السعودي، اختار الملك السعودي أن يكون باب إيران، الجارة الإسلامية الكبرى الواقعة على الضفة الأخرى من الخليج، أول باب يطرقه. فسافر إلى طهران في نهاية1965 ، في أول زيارة رسمية له بعد تبوئه الحكم، وتوصل إلى تفاهمات مع الجانب الإيراني تتعلق باستقرار الخليج، لقيت احتضاناً دولياً في ما بعد.
وسارت الأحداث في سياقها التاريخي المعروف، واستطاعت الرياض في النهاية أن تحسم مسألة الخليج لمصلحتها، وأن تنهي الوجود المصري في اليمن، بنجاح تاريخي استثنائي.
وقف كامل مروة إلى جانب الملك فيصل في هذا الصراع، وتبين لاحقاً أنه كان من مهندسي تقاربه مع إيران، ومن مشجعيه على بناء جبهته مع الدول الإسلامية.
ووقفت شخصيات عربية أخرى إلى جانب الرئيس المصري، ولعبت أدوارها في مساندته. ومع تصلب المواقف المتقابلة وتفاقم التباعد بين الطرفين، بات صعباً على الجميع احتواء خصوماتهم السياسية، كما كان يجري في السنين السابقة، أو الحد من انعكاساتها العنيفة على الشارع العربي. في هذا الجو المشحون، توقفت سيارة صغيرة أمام مبنى «الحياة» في وسط بيروت ليل يوم الاثنين في 16 أيار/مايو 1966، ونزل منها رجل يحمل رسالة إلى رئيس التحرير.
توجه مباشرة إلى ردهة الاستقبال في الطابق الأول حيث سهّل له موظف الاستقبال الدخول إلى غرفة صاحب «الحياة». وقف الرجل أمام كامل مروة الذي كان جالساً وراء مكتبه يتلقى مكالمة هاتفية، وسلّمه الرسالة. ولما بدأ الأخير قراءتها، عاجله بطلقتين من مسدس كاتم للصوت، فأصابه في الصدر. تمالك كامل مروة نفسه ثم وقف على رجليه وهجم على مطلق النار، وتعارك معه برهة قبل أن يخرّ صريعاً إلى الأرض.
وأحدث هذا العراك جلبة، فهرع العاملون في الصحيفة إلى مكتب رئيسهم، لكن الرجل تمكن من الهروب قبل وصولهم، تاركاً مسدسه على الأرض، واختفى معه موظف الاستقبال المذكور آنفاً، وبقي كامل مروة مُلقى ينزف من جراحه زهاء نصف ساعة حتى أتت سيارة إسعاف وأقلته إلى مستشفى الجامعة الأمريكية، حيث فارق الحياة لحظة إدخاله قسم الطوارئ، وكان له من العمر 51 عاماً».

أكبر من حزب معاد

بعدما اغتال عدنان سلطاني صاحب جريدة «الحياة» التقى محسن إبراهيم ذاك المساء بالمفكّر منح الصلح في ردهة «هيلتون النيل» حيث كان على موعد مع الرئيس جمال عبد الناصر، قال لمنح بك: «هل تدري أن الرئيس عبد الناصر أبرق معزياً بكامل مروة في اليوم التالي للجريمة؟». فضحك البك وقال: «إحمد ربك أن البرقية لم تصل قبل الاغتيال بيوم»!. وعندما روى محسن إبراهيم لعبد الناصر ما قاله منح الصلح، انفجر ضاحكاً، ثم توقف فجأة قال في وجوم: «كامل مروة لم يقتل لأنه صحافي كبير، بل قتل لأنه أكبر من حزب معاد».
ويُنقَل عن الخصم السياسي السابق محسن إبراهيم أن كامل مروه عندما اغتيل، كان أهم شيعي في لبنان، وأن بُعده العربي والعالمي تعدى محليات القطاع الشيعي، وفلكلوريتُه وألقه السياسي تخطيا ببعيد حدود لبنان.
وبحسب الكاتب سمير عطاالله « راح ابن الزرارية الوسيم اللبق يطمح إلى أبعد بكثير مما تسمح به محدودية الصحافة ومحدودية لبنان: أراد أن يحقق المصالحة الكبرى بين الشيعة والسنة أو أن يضع المسألة على خط السعي. وعندما تحدث السيد محمد خاتمي في خطابه الرئاسي الأول عن تناسي غوابر القرون وغبارها، كان قد مضى 40 عاماً على مسعى كامل مروة ما بين أهل قم وأهل النجف وأهل أم القرى».
أما نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام وفي عزّ منطق الحرب والتخوين فقد قال في معرض الامتعاض من سياسات الرئيس كامل الأسعد ومواقفه: «هذا كامل مروة، وليس كامل الأسعد».

 

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى