طفولة في الريف المصري العميق
الأرجح أن الملامح الشخصيّة للدكتور مصطفى طُلبَة العلميّة والإنسانيّة، ترتبط بجذوره الأولى ونشأته في قرية «دمشير» في محافظة المنيا في صعيد مصر. وكان رب الأسرة يحرص على اصطحاب ابنه مصطفى إليها كل عام في الإجازة الصيفيّة، لأن الأب انتقل إلى العمل في إحدى مدن دلتا النيل، وولد الابن فيها. وبمعنى ما، جمع طُلبَة قطبي الريف المصري (الصعيد جنوباً والدلتا شمالاً)، فكأنه يحمل شيئاً من ملامح «مينا»، موحِّد وجهي مصر في مطالع عصور الفراعنة.
كان طُلبَة الابن الوحيد الذي نجا من الموت المبكر بين خمسة أبناء. وفي غير لقاء شخصي معه، تذكر ارتباطه بالريف: «كان الجميع يفضل التوجه شمالاً في المصايف البحريّة لقضاء الإجازة، ولكنني كنت أحب الذهاب إلى دمشير الصعيديّة، وفيها ذكريات لا تنتهي من اللعب واللهو مع الأقرباء وحب القرية والطبيعة».
اعتاد طُلبَة أن يراقب الأشجار والعصافير وقنوات المياه الجارية المتفرعة من نهر النيل، متذكّراً عرق الفلاحين تحت وطأة الشمس القاسية ورحلة العودة مع مغيب الشمس راضين بالقليل الذي يقدم لهم من قبل ملاك الأراضي، وفي الوقت ذاته تعلم منهم الترابط والتراحم. وأضاف: «تعلمت منهم تفهّم أمور الحياة، والقدرة على حل المشكلات». وبحنان، اعتاد طُلبَة تذكّر الجلسات المسائية بعد غروب الشمس أمام منزل جدّه لحل مشكلات القرية. اعتاد طُلبَة التعبير عن أفكاره الرائدة في مجال البيئة، وبعضها احتل أولوية لديه، عبر أسئلة من نوع: «دائماً نسأل ماذا نريد للبيئة؟ وما الذي يجب فعله لحمايتها؟ لكننا لا نفكر كثيراً في كيفية تحقيق ذلك». ونادى دوماً بأن تتحوّل المبادرات والإعلانات الدوليّة المعنية بالبيئة والتنمية، خطط عمل تنفيذيّة عبر توضيح الآليات اللازمة لتحقيق تلك الأهداف.
وفي ذلك الإطار، تحدث عن فكرة الاقتصاد الأخضر، قائلاً: «إن النجاح في الوصول إلى ذلك النوع من الاقتصاد يرتكز على الدراسة التحليلية المعمقة للظروف الاقتصاديّة والاجتماعيّة للدول، خصوصاً الدول النامية التي تكافح كي تنمو… ولا تدوم التنمية إلا إذا كانت مصحوبة بتنمية اجتماعيّة وعدالة اجتماعيّة… تلك هي التنمية المستدامة، وعلى الدول النامية أن تبذل كل جهدها لتحقيق ذلك، وكذلك احتساب تكلفة التعامل مع المشاكل البيئية قبل حدوثها لأنها أقل بكثير من كلفة التعامل بعد حدوثها».
ولم يكن طُلبَة ليتردد في التعبير عن رأيه في الطاقة النوويّة: «المهم الجدية والصرامة في التنفيذ والثقافة العلميّة وتبسيطها للمجتمعات حول ذلك الشأن. أنا من مؤيّدي تنويع مصادر الطاقة، لكن يجب أيضاً حساب الكلفة الاقتصادية لإنشاء المحطات وتفكيكها بعد انتهاء عمرها الافتراضي، والمدة الزمنية اللازمة لإنشاء المفاعل النووي».
وتكراراً، أبدى طُلبَة اهتمامه بمسألة الزيادة السكانيّة في الدول العربيّة، خصوصاً مصر، لأنها تهدّد منجزات التنمية. وطالما لفت إلى أن المشكلة الديموغرافيّة المعقّدة للزيادة المفرطة في السكان، تحتاج إلى جهد كبير من والإعلام والفن والثقافة المؤسّسة الدينية عموماً، لكن بطرق مبتكرة وغير تقليدية وتراعي المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية. وكثيراً ما طرح أسئلة من نوع: «أين النماذج الناجحة في إعلامنا؟»، و «أين النماذج التي يجب أن تحتذى ويعرف بها الناس؟»، و «أين الدراما والمسرح من هذه القضية؟».
ولطالما اهتم طُلبَة بقضية المياه ونهر النيل، مؤكّداً ضرورة إجراء مفاوضات غير رسميّة تشمل خبراء الري والقانون، بهدف إفساح مساحة أكبر من الحرية في الحوار وتبادل الرؤى المختلفة. وقال: «من الممكن أن تتاح الفرصة لوفد تفاوضي غير رسمي من شخصيات عامة لها وزنها وصدقيتها لدى دول «حوض النيل». ويمكن أيضاً أن تؤدّي المنظّمات الإقليميّة المعنية والدوليّة دور الوسيط الإيجابي… لا بأس أن تكون على الحياد، لكن يفترض أن يكون حياداً إيجابيّاً».
في ذلك السياق، درج طُلبَة على استعادة تجربته في «برنامج الأمم المتحدة للبيئة» بشأن التوصل لاتفاقيّة «نهر زامبيزي» الذي تتشاطأ عليه ثماني دول، وكذلك الاتفاقيّة المتعلّقة ببحيرة تشاد.
وبصورة دائمة، دعا طُلبَة إلى تطوير الري واستخدام أفضل التكنولوجيات فيه، وإيجاد حل لمشكلة الري بالغمر في مصر، وترشيد استهلاك المياه والطاقة. وكذلك دعا إلى مشاركة الشباب والمجتمعات المحليّة في وضع خطط البيئة، خصوصاً في المدن الجديدة والمناطق الصحراوية، كي لا تنفصل خطط التنمية عن مطالب الناس وطموحاتهم وثقافتهم.
(الحياة)