سليم عنتوري يفتح «صندوق أسرار» المشرق

علي نسر

عودنا الروائيون بأن يتخذوا من قضية معينة، ما يعرف بصندوق صوت، يطلون به على قضايا أخرى، قد تطغى على القضية الأساس أحيانًا. وغالبًا ما يتعب المتلقي في كشف هذا الصندوق/ القضية، لكن الكاتب سليم طانوس عنتوري، يعلن منذ البدايات عن صندوق صوت روايته الذي يشكل عنوان الرواية «صندوق الأسرار» (دار سائر المشرق). إنه الصندوق الذي ظهر بعد خمسين عامًا على اختفاء صاحبه، ليفك اللغز، وتحل الشيفرة التي مات من مات قبل معرفة سرها. فتأتي ضربة معول، من عامل بناء، لتكشف وجوده في جدار بيت عتيق، وليحظى الحفيد عبدالله بذلك الكنز كاشفًا أسباب اختفاء جده نعمان، ووجهة سفره يوم الاحتفال بعيد مولده الخامس والسبعين: «دام انتظاري نصف قرن حتى انكشف سر جدي بضربة من معول المعلم مخول». (ص21).
لم يكتف الكاتب بتوفير الراحة للمتلقي، عبر إعفائه من عناء البحث عن القضية المحورية في النص، بل نراه يؤطر الأحداث زمانيًا ومكانيًا، ومباشرة من دون تلميح وإيماء، كاشفًا عن بؤرته السردية زمكانياً، مقدماً أسماء الأبطال وأزمنة حركاتهم وإطار وجودهم، منذ الصفحة الأولى.
بهذا تغطي الرواية، وبطريقة فنية تكثيفية لافتة، ما يقارب قرناً من تاريخ لبنان والمنطقة، في مرحلة حساسة شهدت تحولات تاريخية وسياسية وجغرافية، لمح الكاتب مرارًا إلى أنها مرحلة كتابة تاريخ لبنان والمنطقة حديثًا، عبر التدخلات الغربية والأميركية المبكرة، وذلك في أواخر أيام الحكم العثماني: «التاريخ الآن يتلمس اتجاهاته الجديدة» (ص96).
هي حكاية أربعة أجيال من عائلة بو جرمانوس رزق الله، بدءًا بموسى مرورًا بابنه نعمان، الشخصية المحورية، ثم كرم – الابن، وصولًا إلى الحفيد، عبدالله. هي حكاية لم تشهد تغيرات وتبدلات جوهرية في طريقة حياة أصحابها ومناهج عيشهم، سواء في منطقة أبلح البقاعية، التي ترك الجميع بصماتهم على صفحات كتابها مساهمين في تقدمها واحتلالها مركزًا مرموقًا، عبر الإشارة إلى الدور المسيحي في وصولها إلى منارة مقصودة على مختلف الصعد، أم في دراستهم والوظائف التي شغلوها عبر أجيال متتالية. لكن حياة الجد نعمان كانت الأكثر حضورًا لما شهدته من تغيرات على صعيد الحب، ومغامرة السفر نحو البلاد التي تقيم فيها حبيبته الأولى وجارته ورفيقته في المدرسة، رند بنت يوسف. وبهذا يكون مشوار حياتهم، أقرب إلى قصيدة، تكفّل كل جيل بكتابة بعض سطورها. وهذا ما تؤكده آية – زوجة كرم – التي كانت، كغيرها، تلمح في عينيّ حميها نعمان بريقًا من أسرار عصيّة على الانكشاف.
ولم يخب ظنّها، إذ ختم الحفيد عبدالله، تلك القصيدة/الحياة، بكشفه أكبر أسرارها، عبر التقاطه صندوق العائلة الأقرب إلى صندوق أسود عُثر عليه بعد فقدان طائرته بعقود، فكان الصوتان الأخيران فيه، عبارة عن برقيتين متبادلتين بين العشيقين اللذين لم يرهقهما التقدم في السن، فعرف السر العام 1983، وتوضحت وجهة المفقود في ثلاثينات القرن ذاته.
ولما تكفل الحفيد كتابة آخر فصول القصيدة، وجد القارئ نفسه أمام نص فيه جبلة صلصالية خاصة، إذ لم يتفلت الكاتب من الهوية الروائية التي يتبناها منذ البداية، على الغلاف الخارجي. وفي الوقت ذاته لم ينكر اقتراب النص من فن السيرة الذي نرى فيه الكثير من سمات الفن السيري. وهذا ما يكشف عنه عبدالله منذ عثوره على صندوق البرقيات، إذ يتكفل سرد سيرة جده من ناحية وجدانية فقط، معتمدًا برقياته الوثيقة الأساسية التي يمكن الاعتماد عليها: «على مكتبي ما يناهز الثلاثة آلاف برقية تبادلها جدي مع الأميرة، وتبادلتها الأميرة مع جدي…» (ص27). وبهذا، نكون أمام نمطين من الرواة، الراوي المشارك المحدود المعرفة، المستمد معلوماته مما لديه من صندوق أسرار، فعرض ما عرض من خلال برقيات أقرب إلى الحوار لكنه حوار مؤجل، والراوي العليم المطلق المعرفة، الذي يروي الحكاية انطلاقاً من موقعه الفني المألوف.
وإضافة إلى ما يتوافر من عناصر فنية تجعل هذا النص هجينًا، ذا عجينة مختلطة من الرواية والسيرة، فإننا نجد فيه ملامح من المقالات التي عرف الكاتب كيف يوظفها من دون أن تكون دخيلة على النص وتقنياته السردية. فقدم جردًا تاريخيًّا واجتماعيًّا للمدة التي غطتها الرواية زمانيًّا، طارحًا العديد من المعلومات التاريخية التي قد يكون التاريخ ذاته عاجزًا عن إيصالها إلى المتلقي بالطريقة الفنية التي يتلقفها من خلال الرواية. وبهذا نؤكد أن الرواية أقرب الفنون إلى البحث نظرًا إلى تحررها من قيود الفنون الأدبية الأخرى. فاستطاع الكاتب، وبأسلوب سلس، أن يضعَنا أمام مرآة تلك المرحلة، كاشفًا الدور الأميركي منذ تلك الحقبة في رسم معالم المنطقة سياسيًّا وجغرافيًّا والسيطرة عليها بمختلف الوسائل. هذا إضافة إلى الدور الأوروبي منذ حملة بونابرت، وكذلك التقارب الألماني من حكام المنطقة، وما لهذا من أثر في فلسطين وقضيتها لاحقًا

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى