في ذكرى رحيله الثالثة: محمّد الصبّاغ: عرّف بالشّعرالإسباني في لغة الضّاد وبالعربي في لغة سيرفانتيس

محمد محمد الخطابي

فى التاسع من شهر نيسان/ابريل الماضي 2016 حلّت الذكرى الثالثة لرحيل الأديب المغربي محمّد الصبّاغ، ففي مثل هذا التاريخ من عام 2013 خَبَا اسم لامع من الأسماء الأدبية التي حلّقت عالياً في سماء الخلق والعطاء، والإبداع في المغرب، انطفأت شمعة طالما أنارت دياجي العتمة في هذا البلد الأمين، أفلت نجمة – ويا للعجب – بزغت، وأشرقت، وأشعّتْ خيوطها الذهبية الأولى مطلّة في خشوع بين مرتفعات، وآكام، وهيادب السّحب الدّكناء الرّاسية على قمم جَبَليْ «دِرْسَا» و«غُورْغِيزْ» الشّاهقين اللذيْن يحضنان بين تضاريسهما، وآجامهما مدينة «تطّاوين» الفيحاء أو «تطوان» العامرة التي تبدو للناظر إليها من بعيد وكأنّها حمامة ناصعة البياض، وهو الوصف نفسه الذي أطلقه عليها، ونعتها به الكاتب الإسباني بِينيتو بِيريثْ غَالْدُوسْ (1843- 1920) في روايته «عايطة تطّاوين» التي تدور أحداثها عن الحملة الحربيّة الضروس، والهجمة العسكرية الشّرسة التي قادها الجنرال الإسباني ليوبولدو أودونيل عليها عاميْ (1860- 1859)، والحمامة البيضاء هو النّعت الذي ما فتئت تُسمَّى به هذه المدينة الجميلة حتى اليوم، الحمامة إيّاها لابدّ أنها الحمامة ذاتها التي سبق أن رمق أحمد شوقي سليلاتها، أو مثيلاتها في مهجره، وهو في منفاه في الأندلس، والتي قال فيها أو عنها آنذاك:
حمامةُ الأيكِ مَنْ بالشّدو طارحها / وَمَنْ وراء الدّجى بالشّوق ناجاها,

تطّاوين..توأم غرناطة الحمراء

في هذه المدينة الفيحاء، توأمة غرناطة الحمراء، التي طرّزَ ونسجَ اسمَها الشّاعريّ اللاّمع أجداد من أرومة الأمازيغ الأحرار منذ بنائها أواخر القرن الخامس عشر الميلادي من طرف الموريسكييّن النازحين، المُهجّرين، والمُبعدين من دورهم، ووطنهم في إسبانيا قهراً وقسراً وعُنوةً، والتي تعني «العيون» (وهي تطاوين في صيغة الجمع ومفردها تطّ). في زنقة تسمّى «القايد أحمد» في المدينة العتيقة وُلد الطفل «الصبّاغ» الذي سيحمل طفولتَه معه بين أحشائه، وجوارحه، وقراطيسه، وأقلامه طوال حياته، والتي لم تنسلخ عنه، ولم تفارقه قطّ في رحلة عمره الطويلة إلى أن أسلم الرّوحَ في رباط الفتح، وعادت في سلام إلى باريها وخالقها,
في الذّكرى الثالثة لرحيلك ها نحن أيها الصّديق الأثير نتطلّع إليك من وراء الغيب، وأنت في دار البقاء والنّقاء بعيداً عن دار الشّقاء، نبعث إليك بكلمات نسجت خيوطها السّنون بأحرفٍ من نور سرمديّ، ونترحّم على روحك الطاهرة، بعد أن خطفتك منّا يدُ المنون التي ما زالت تخبط فينا وبيننا خبط عشواء بدون هوادة، تسلبنا أحبّاءنا، وخلاّننا، وتتركنا حيارىَ في قبضة الزّمن العاتي الغاشم الذي لا يرحم.
إننا ما زلنا نتذكر مكانك المعهود في مقهى «باليما» في قلب مدينة الرّباط، وحرقةٌ في النفس، وغصّةٌ في الحلق، وحزنٌ عميق في القلب ينتابنا لفقدانك، ، إنّنا ما زلنا نتذكّر ابتسامتك المعهودة، وتواضعَك الجمّ، وكلماتك المنتقاة المتناغمة المتراصّة، كنت تبادل خلّانَك، وأصدقاءَك، وأحبّاءَك، الحديث، كأنك مخلوق بلّوري، كنتَ طيّبَ المعشر، هادئَ البال، خفيضَ الصّوت، يكاد حديثك أن يكون همساً، وديعَ النفس، رقيقَ المشاعر، حلوَ الكلام، صافي السّجايا، حميدَ الخصال، كريمَ المحتد، بلطفك الشديد، وببراءتك النقيّة، وبكلماتك الهادئة التي تخرج من فيك والتي بالكاد كانت تلامس آذانَ مُخاطَبيك، كنت تُحاوِرنا، بكلامك المقلّ، وبإصغائك الطويل، نابهاً، يقظاً، ذكيّاً، وقّاداً. أنت الذي أعطيتَ للحرف معنىً، وللكلمة مغزىً في هذا الرّبع القصيّ من وطننا الكبير، وألبست اللغة هيبةً وسحراً، وخلعتَ عليها درراً ووقاراً، من محيّاك السّمح يُدرك محاوروك من أوّل وهلة أن لك قلباً أرقّ من الحمائم.
أدبك يعانق الآمال والآلام، ويتفجّر بالمكابدة والمعاناة، مشحون بالرّموز والدّلالات البعيدة الغور، إنّه أدب لا يُقرأ بالعين، أو باللسان، أو بالقلب، أو بالعقل وحسب، بل يُقرأ بهم جميعاً، قصصك، ومقالاتك، وكتبك، وشعرك، ومترجماتك، وإبداعاتك تستحوذ على كيان قارئها وتشدّه إليها شدّاً، وصدى كلماتها، وشذى أسلوبها، ومعانيها، وأحداثها، وتعابيرها، وأغوارها وأبعادها مازالت تفعل فينا فعلَ السّحر، وهي ما انفكّت عالقة لصيقة بأذهاننا ووجداننا إلى اليوم.
كنتُ كلّما سلّمتك مقالاً أو كتاباً من بواكير كتاباتي الأولى- وأنا بَعْدُ مازلت في مقتبل العمر وريعانه – تبادر بكلمات الشّكر والامتنان، كنت تعرف أن الذي يسلّمك أدبَه، إنّما كان يسلّمك قطعة قُدّت من عقله، وذاته، ووقته، وسُهاده، وسَهره، ومُعاناته، وعَذاباته.
أيّها الصّديق الأبرّ عزّ عليّ ألاّ أكون إلى جانب هؤلاء الزّملاء الأكارم من فرسان القلم والخلق والإبداع، من أصدقائك، وخلاّنك، وتلامذتك، ومريديك، وجيرانك، ومحبّيك- وما أكثرهم – الذين رافقوك منذ ثلاث سنوات إلى مثواك الأخير، فقد شط بيننا المزار آنذاك، وبعدت عنّا المنازل والديار، كان بيني وبين الوطن برزخ واسع، ويمّ عميق. ولكن على الرّغم من بعد النّوى، وحرقة الفراق، فإنّك ستظلّ في قلوبنا، وأفئدتنا، وأذهاننا، ومخيّلاتنا ما حيينا، ساطعاً مشعّاً كالقمر في كبد السّماء، لامعاً وضّاءً كأنشودة صادحة في الآفاق، تطلّ علينا من وراء الأفق النائي، ومن خلف الغيب البعيد.

غارسيا لوركا، فيسينتي أكسندري والصبّاغ

تحيّة حرّى صادقة إليك من ضفاف ربوع الأندلس الفيحاء التي طالما هِمْتَ بها وعشقتها، وترجمتَ، وكتبتَ، ونشرتَ إلى جانب صفوة من رفاقك المغاربة في درب الخلْق والإبداع قصائد، ومترجمات، ومرثيات عن الكثيرين من أدبائها وشعرائها، وفي طليعتهم الشّاعر المنكود الطالع، المأسوف على شبابه، فيدريكو غارسيا لوركا، في مجلتيْ «المُعتمد» التي كانت تصدرها صديقتك الأديبة الإسبانية ترينا ميركادير في مدينة العرائش المغربية، وفي مجلة» كتامة» الذي كان يصدرها صديقك وصديقي الأديب الإسباني خاثنتو لوبث كورخي بحاضرة تطوان، وكلتا المجلّتين شكّلتا سبقاً عظيماً لم نر له مثيلاً ولا نظيراً في العالم العربي حتى اليوم، إذ كانتا تصدران في آن، في ذلك الإبّان باللغتين العربية والإسبانية. ذكراك العطرة في هذه الحقول الإبداعية وسواها مازالت، وستظلّ نابضة، متّقدة في قلوبنا كالشّعاع الوهّاج، بكلماتك، وأدبك، وإبداعك، وخُلقك، وطيبتك، ونبلك وأريحيتك. هناك رسالة أدبية حميمة مطوّلة شّهيرة لصديق آخر لك، هو الشاعر فيسينتي ألكسندري الحاصل على جائزة نوبل في الآداب عام1977، التي تحمل عنوان «الرّسالة المغربية» وهي موجّهة إلى الشّاعرة الإسبانية ترينا مركادير، التي كانت تقيم في المغرب، سجّل الشاعر ألكسندري في هذه الرسالة الطريفة إعجابَه الكبير بمدينة تطوان المغربية. وفيها يصف الشاعر هذه المدينة الجميلة وأسواقها، ودورها، وأزقتها، وشوارعها، ومآذنها، ومعالمها، وبساتينها الغناء، ذات الطابع، والمعمار، والتأثير الأندلسي الجميل، ومحلاتها، وأناسها، وصنّاعها المهرة، وهم منهمكون في صناعاتهم التقليدية والإبداعية الشعبية المتوارثة المُبهرة، كما أنه يتحدّث في هذه الرّسالة عنك، حيث كنت قد رافقته خلال زيارته لهذه المدينة الجميلة، ولقد كانت هناك في ما بعد مراسلات أدبية رائعة بينك وبين صديقك، وصفيّك الشّاعر الأندلسي الإشبيلي الرقيق فيسنتي ألكسندري الذي بعد وفاته في 14 كانون الأوّل/ديسمبر 1984 كتبتَ مرثية مؤثّرة وبليغة عنه نشرتها جريدة «العَلَم» المغربية، ولقد قمتُ إبّانئذ بترجمة مقالتك الجميلة من اللغة العربية إلى اللغة الإسبانية، ونشرتها في تلك السنة نفسها جريدة «الرّأي» المغربية الصّادرة في الرّباط في التاريخ نفسه المذكور ضمن طبعتها باللغة الإسبانية.

فوّارةُ ظمئِه وأُسْدُ شَلاّلاته

هذا الكاتب الذي نحيي ذكرى رحيله الثالثة بكل وفاء هذه الأيام,. قرأنا له العديد من الرّوائع الموشاة الجوانب، والمطرّزة الحواشي، من منّا لا يذكر بنات أحلامه السّابحات في عالم أثيري بهيج، اللاّئي ينسبنَ انسياباً في رفق ودلال ورقّة مع أمواج فكره وخياله، فـ«عَبيرُه المُلتهب» ما زال يفعل فينا فعلَ المياه العذبة في الأملاح، و«شجرة محّاره» ما زالت تستظلّنا بوارف ظلالها الفضيّة النقيّة، الطليّة، المزخرفة الموشّاة، وما زلنا نقترب بها من فوهة آذاننا، في نشوة وانتشاء الأطفال وبراءتهم، لتسمعنا على إيقاع هدير الأمواج العاتية البعيدة سحرَ الأسطورة المسحورة، وتحكي لنا خرافة الجنيّ المارد العملاق، الذي يستوي مربّعاً كالحزمة داخل الزّجاجة الصغيرة، ثمّ ما ينفكّ يخرج منها في رفق وينتشر في الفضاء انتشار مظلّة مظليّ جبّار في عمق السماء وعنانها. و»لهاثه الجريح « ما زال يلهث في أناة، وينفث لنا مع كلّ زفرة من زفراته، أنّات، وآهات باكية شاكية متأنيّة. وما زال «زورق قمره» المحمّل بلذيذ المسك، يحكي لنا عن أسراره كلما حوّم وسبح في البعد اللانهائيّ الفسيح، ثمّ لا يلبث أن يعود إلى مستقرّه ليستوي على عرش القلب ويحيط بشغاف الفؤاد.
وتتسابق الحروف، وتتبارى الكلمات في الحديث، والحديث ذو شجون، شدواً، وهمساً، وصّياحاً، ما بين «أسد شلاّلاته»، و«فوّارة ظمئه» و«عنقود نداه»، و«شموعه» البّارقات التي لا تنطفئ مهما بلغ عتيّ الريّاح، بل إنهّا تزيدها اتّقاداً، ولمعاناً، ونوراً، وبهاءً.
هكذا كان «الصبّاغ» فكأنّما من نفسه صيغ أو صبغ اسمه، فإذا الجوهر سرّ المخبر، وكأنّي بريشته قد قُدّتْ من روحه لتصبغ لنا ألواناً زاهية رائقة من الأدب الرفيع، وإذا بالكلمة عنده تشبه ملائكة الفجر الصّبوح، تتيه في دروب قلوبنا المظلمة، فتشعّ وتشيع فيها وعليها من نورها ضياءً ساطعات، سرعان ما تتحوّل في حياتنا إلى أصواتٍ نهتدي على هديها في المسالك الوعرة، والحوالك الصعبة، ونجتاز بها مفاوزَ، وقفارَ حياتنا المعتمة…
«كالرّسم بالوهم» حزمة عواطف، وشحنة آهات، وباقة خواطر، تبدّت جدواها في حياة الكاتب الألمعيّ، فكان لها قلمه بالمرصاد مسجّلاً، حاكياً، شاهداً، ناطقاً، صادقاً، ينتقل بنا في سياحة فكرية وأسلوبية رائعة، فمن حديثه عن: «ألفية ابن زيدون»، وعن رحلته الضوئيّة من «الأندلس إلى المغرب»، ثمّ يعرّج على «لوركا» المعذّب الحائر المكابد، ويذرف الدّمعات حرّى ساخنة على «أمّ كلثوم» التي يرى فيها «الحرب والسلم، والنّار برداً وسلاماً، وخمرةَ هوىً، وأسطوانةَ حياة، تديرها ملايين الأصابع»، ومنها يطير إلى «لبنان» المخضب، المتألّم والذي لا يبرحه الألقُ، والرّونقُ والبّهاءُ أبداً.
ومن لبنان الجميل ينتقل للحديث في شفافية فلذات الأكباد الصّغار، أمل الغد ورجال الآتي، ثم اعتراف بسبق عظيم في عالم «القصّة» بتقريظه لمجموعة «العمّ بوشناق» لعبد الرحمن الفاسي، الذي يقول عنه أنّه ألبس القصّة في هذه الرّبوع عمامةَ التوحيدي، وخلعَ عنها قبّعةَ موباسّان..! ويقول عن صديقه، وخلّه الكاتب المرحوم عبد الجبّار السحيمي: «قبل أن يأتي هذا الوجه في سياق الرّؤيا، كانت القصّة في هذه الرّقعة ضرباً من الخرافة تُرسل في الأسمار، أمّا على يديه فقد استوت فنّاً مُربّعاً يصدّره المغرب إلى الخارج مع أنفس ما يصدّره من بهاء».

ميخائيل نعيمه والصبّاغ

الصبّاغ, من أيِّ عهدٍ تدفّق علينا بفنّه الرائق؟ بشلالاته أُسْدِه وشجرة محّاراته وصدفاته الملساء وعناقيده المدلاّة الصّافية كثريّات الذهب، أو كالبلّور الناصع النقيّ.. من أيِّ عهدٍ نبعَ ونبغَ ونبتَ هذا الشاعر النثّار.. والحالم السّماوي؟ لقد كان رحمه الله عطاءً من نوع خاص، جادت به تربتنا الفيحاء، ونفخ فيه تراثنا العريق، واستظلّته أدواح الغرب، فكان هذا الحلم المبعثر في ثنايا الزّمن.. هذا الشّادي الذي تحوّل اليراع على يديه إلى نايٍ مِصداح في لمحٍ من العين، فأطربنَا وأشجانَا، وأعذبَ الكلامِ وحلوَه أسمَعنا.
قال الأديب اللبناني الشهير ميخائيل نعيمة، رحمه الله، حين قدّم كتاب محمد الصّباغ «اللهاث الجريح» (1955): «يعتبر الصباغ من ألمع رجالات النهضة الأدبية في المغرب العربي، فهو كاتب تتفجر عواطفه وأفكاره من شق قلمه عنيفة، صاخبة، ولذلك تراه يتنكّب العادي والمألوف من قوالب البيان. إذا نظم فبغير وزن وقافية كما تشهد مجموعته الشعرية المترجمة إلى الإسبانية «شجرة النار»، وإذا نثر كسا مفرداته وعباراته حللاً من الألوان بين زاهية وقاتمة، ثم أطلقها تدرج على أوتار تعدّدت مفاتيحها وتنوّعت قراراتها».
كان بديعاً في الديباجة، رائعاً في المعاني. كان أديباً سما به أدبُه، إننا ما فتئنا نستحضر ونتذكّر كتاباته التي تطفح بالتفاؤل، وتحفل بالآمال، ونردّدها في ما بيننا بين الفينة والأخرى، وعلى الرّغم من الألم الممضّ الذي يعصرنا، والحزن العميق الذي يهدّنا، فإنّه ما زال يجعل شفاهَنا تندّ حتى اليوم عن ابتساماتٍ واسعةٍ عريضةٍ في زمنٍ رديء قلّتْ فيه البهجة، وشحّت فيه البّسمات.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى