في رحاب التابعين.. الأحنف بن قيس

منير عتيبة

هو الضحاك بن قيس بن معاوية السعدي. ولد في السنة الثالثة قبل الهجرة في منازل قومه بني تميم غربي اليمامة من أراضي نجد، لقبه الناس بالأحنف لاعوجاج في رجليه. ومع مضى الزمن نسوا اسم الضحاك وبقي اسم الأحنف.

لم يكن الأحنف بن قيس جميل المنظر. ولم يكن أبوه من كبار بني تميم، بل كان من أوساط الناس. لكن الأحنف ساد قومه بالحلم والصبر والتقى والإيمان. وكان عاقلاً حازمًا شجاعًا.

أسلم الأحنف بن قيس في حياة النبى صلى الله عليه وسلم لكن عينيه لم تكتحلا برؤية وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان له فضل في دخول قومه إلى الإسلام، فقد وجد قومه مترددين في قبول أو رفض الإسلام الذي يعرضه عليهم أحد الصحابة الذين أرسلهم الرسول صلى الله عليه وسلم لدعوة بني تميم إلى الإسلام.

وكان الأحنف شابًا ذكيًا حازمًا فوقف أمام كبار القوم وقال لهم: يا قوم مالي أراكم تقدمون رجلاً وتؤخرون رجلاً؟ والله إن هذا الوافد عليكم لوافد خير، وإنه ليدعوكم إلى مكارم الأخلاق، ووالله ما سمعنا منه إلا حُسْناً، فأجيبوا داعي الهدى تفوزوا بخيري الدنيا والآخرة. فأسلم القوم. وعرف الرسول صلى الله عليه وسلم بما حدث فدعا الله قائلاً “اللهم اغفر للأحنف”.

خطب الأحنف يومًا أمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأعجبه منطقة وقال “هذا والله السيد”. وقال عنه الحسن البصرى: ما رأيت شريف قوم أفضل منه.

واجتمع قوم عند الأحنف بن قيس يتعلمون منه وهو يفيض عليهم من علمه وخلقه، فقال له أحدهم: بم أوتيت ما أوتيت من الوقار والحكمة؟

فقال الأحنف: بكلمات سمعتها من عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

– وماذا قال لك عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟

– قال عمر “من مَزَحَ أستُخف به، ومن أكثر من شيء عُرف به، ومن كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه”.

– من الذي يسود قومه؟

– من كان فيه أربع خصال ساد قومه غير مُدَافَع.

– وما هذه الخصال الأربع؟

– الأولى أن يكون ذا دين يمنعه عن المعاصي. والثانية أن يكون ذا حسب وشرف يصونه. والثالثة أن يكون له عقل يرشده إلى الصواب. والرابعة أن يكون ذا حياء يمنعه عن الصغائر.

– ضربت العرب بحلمك الأمثال فما هو الحلم؟

– الحلم هو الذل مع الصبر.

– بم سدت قومك؟

– بتركى من الأمر ما لا يعنينى.

كان الأحنف بن قيس رضي الله عنه يقابل أحياناً بعض صغار النفوس فيتطاولون عليه بالسب والشتم. ويؤذونه بقبيح الكلام. يهدفون من ذلك إلى إغضابه وإخراجه من حلمه، لكنه كان مثلاً في الحلم حتى مع مثل هؤلاء السفهاء.

ذات يوم كان الأحنف بن قيس يمشي وحده بالقرب من البصرة، فتعرض له أحد السفهاء يسبه ويشتمه، والأحنف سائر في طريقه لا يلتفت إليه ولا يرد عليه، فلما اقتربا من الناس وقف الأحنف والتفت إلى السفيه وقال له برفق: يا ابن أخي إن كان قد بقى من كلامك شيء فقله الآن، فإن قومي إذا سمعوا ما تقول أصابك منهم أذى. فبكى السفيه وقال: واسوأتاه، والله ما منعه من جوابي إلا هواني عليه!

وقال له أحد السفهاء يومًا: والله يا أحنف لئن قلت لي واحدة لتسمعن بدلها عشرًا.

فقال له الأحنف: إنك إن قلت لي عشرًا لا تسمع منى واحدة.

كان الأحنف بن قيس كثير الصلاة بالليل والناس نيام.. كان يسرج المصباح ويصلي ويبكي حتى الصباح، ويقرب أصبعه من لهب المصباح وبقول لنفسه: حس يا أحنف.. إن كنت لا تصبر على نار المصباح فكيف تصبر على النار الكبرى؟

ثم يرفع رأسه إلى السماء وقد امتلأ قلبه بالرهبة من الله، وفاضت عيناه بالدموع، ويدعو الله قائلاً: اللهم إن تعذبني فأنا أهل لذاك، وإن تغفر لي فأنت أهل لذاك.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى