عودة على طرق التهجير والحرب في مهرجان الفيلم اللبناني

علي زراقط

الطريق في السينما هو رمز لانتقال الشخصيات أو الراوي من حالة نفسية إلى حالة نفسية أخرى، من شعور إلى شعور. والطريق هو غواية المجهول، وخوفه، وهو ترك المعلوم المعتاد إلى أماكن أكثر غموضاً تتضح مع مرورنا عبرها. هذه الطرق التي تفضي إلى المجهول تحتل مساحات واسعة من الأفلام التي عرضت في مهرجان الفيلم اللبناني، وخاصة في الوثائقيات. طرق تتخذ أشكالاً عدة، فأحدها يحاول الوصول إلى الماضي (الحرب) في فيلم «كان يا ما كان .. مرتين»، وآخر يحاول الهروب منها إلى الحلم بالحرية في قيادة الدراجات في «عجلات الحرب»، الثالث يربط بين عدوّين عبر شطري العاصمة في «لبنان يربح كأس العالم»، أما الرابع فمكتوبٌ على سالكيه كالقدر في «أسفلت».
هكذا تنطلق السيارة من بيروت بحثاً عن طريق التهجير الذي كانت تسلكه في أيام الحرب الأهلية، تتوه السيارة مع تغير الطرق القديمة، فلا تعرفها العائلة. الطريق هنا هو رمز الذاكرة التائهة، التي تحاول المخرجة نعم عيتاني استعادتها في فيلمها الوثائقي «كان يا ما كان … مرتين». تفترض المخرجة أن لا بد لها من ذكريات جميلة خلال طفولتها. تبحث عنها في بيروت فلا تجدها، لذا تختار اجتياز الجبل وصولاً إلى البقاع حيث أمضت مع أسرتها أيام التهجير حيث تلتقي بخليل الطفل اللاجئ مع عائلته إلى لبنان من سوريا. يمثّل الطفل انعكاس مخيلتها عن طفولتها فتبني معه علاقة تروي من خلالها عذابات التهجير المشتركة. تكتشف مع مرور الفيلم كم أن الذاكرة متصدّعة ومكلومة، وكم أن الطريق إلى التيقن من الماضي صار بلا ملامح ومليء بالتخمينات.
هذه الذاكرة المشوشة التي تحاول أن تستعيد ذكريات سعيدة، تنقلب إلى كوابيس واضحة كالشمس في «عجلات الحرب». يروي رامي قديح في أسلوب ديناميكي سيرة عدد من هواة الدراجات النارية، الذين يلجأون عبر حرية دراجاتهم إلى الهرب من كوابيس الحرب التي خاضوها كمقاتلين. كمقاتلين تتقلب الحرب في ذاكرتهم بين الخبريات المضحكة، والألم والفزع. إلا أنهم يتذكرون كل شيء بوضوح، ويسردونه بكلمات دقيقة ترسم أمام المشاهد الأحداث رسماً. لقد قاتلوا، تركوا دراجاتهم لأجل السلاح، إلا أنهم الآن يهربون ما استطاعوا من الاحتكام إليه، على طريق سريع.
التوبة
على شاشة أخرى، في «لبنان يربح كأس العالم» لطوني الخوري وانتوني لبيه، يعبر المقاتل الشيوعي السابق المدينة، لأجل لقاء مقاتل القوات اللبنانية السابق، كلاهما يجتمعان في حب كرة القدم وخاصة منتخب البرازيل. الفيلم المبني بأسلوب يشبه برامج تلفزيون الواقع، يحاول أن يبني دراما يتصارع فيها شغف كرة القدم مع الحرب التي بداخل كل من الشخصيتين. تصبح الحرب كائناً واحداً بغيضاً، فعلا افترفاه مخدوعين، فيما كان الأجدى أن نتابع كرة القدم. هنا يكتسب الطريق صفة الندامة، نوعا من التوبة والتطهر، يصورهما الفيلم تصويراً شبه حرفي عبر غطس إحدى الشخصيات في البحر عند النهاية وهو يقول «عندما أسبح أنسى كل شيء».
هل فعلاً نحن نريد النسيان؟ وإن كنا نريده فعلاً فلماذا نسلك طريق الذاكرة هذا كلما عنّ علينا أن نروي قصة؟ يبدو أن الوثائقيات اللبنانية محكومة به، طريق الذاكرة الوعر المقطوع في أكثر من مكان.
السينمائيون اللبنانيون محكومون بالطريق كما هم محكومون به سائقو شاحنات «أسفلت» لعلي حمود، حيث الطريق هو شرط وجودهم، وهو شرط الفيلم، وهو شخصيته الأساسية. في فيلم رحلة يصور لنا حمود الحياة اليومية لسائقي شاحنات عبر البلاد العربية، كيف ينامون ويأكلون ويشربون. بماذا يفكرون وكيف يسلّون أنفسهم لأيام وحيدين عبر الأرياف، الصحارى والمدن؟ يرسم حمود صورة لأناس محكومين بالترحال، والاستمرار بالحركة في لحظة تبدأ الأزمات السياسية والأمنية بتهديد لقمة عيش هؤلاء عبر إغلاق الحدود وعبر الشح في الوقود. الحرب والأزمات هاجس خفي في عقول السائقين إلا أن ما يعينهم عليه هو إيمانهم بالأسفلت وبأنهم بخير ما دامت عجلة شاحناتهم لا زالت تدور، وهم يدورون معها.
تدور عجلات السائقين، تدور عجلات الدراجات النارية، تدور سيارة العائلة، كذلك هي كاميرات السينمائيين تدور حول الذاكرة والحرب، كأنها الطريق يتحول رويداً رويداً إلى نوع من العبادة، أو فلنقل تخفيفاً، إلى نوع من الهوس.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى