غراهام سويفت يحتفل بـ «أحد الأم»

مودي بيطار

بدأت قراءة «أحد الأم» وأنا أفكر بشخصيتين متناقضتين للخادم في الأدب المكتوب بالإنكليزية. بطل رواية روبن موم الصغيرة «الخادم» التي كتبها في 1948، واقتبسها هارولد بنتر للسينما في 1963 عن شاب ماكر مناور يتلاعب بمخدومه الأرستقراطي حتى يصبح هو الآمر. ورئيس الخدم في «بقايا النهار» للياباني البريطاني كازو إيشيغورو الذي يحدّد هويته في تكريس نفسه لخدمة سيده لورد دارلنغتن فيفقدها ويخسر إنسانيته وحياته الخاصة. بطلة «أحد الأم» الصادرة عن «سكريبنر» لغراهام سويفت تبقى بعيدة، بلا ملامح واضحة أو عمق في شخصيتها وعلاقاتها وعملها وتطور حياتها على رغم مآسيها الكبيرة. تُترَك جين فيرتشايلد رضيعة على درج ميتم في أوائل القرن العشرين، وتبدأ خدمة المنازل في الرابعة عشرة. بعد ثلاث سنوات تلتقي بول شيرنغهام، ابن صديقي مخدومها مستر نيفن، في مكتب البريد، ويستهلانّ علاقة طويلة بينما العالم حولهما في حرب وحداد على الضحايا الذين شملوا شقيقيه ونجلي مستر نيفن.

تدور الرواية غالباً في يوم واحد هو عيد الأم في 30 آذار 1924 في باركشير في الريف الإنكليزي. دعي حينها «أحد الأم» وكان عطلة نادرة للخدم الذين أمضوه مع عائلاتهم. تستعدّ جين للتنزه على الدراجة حين يتصل بول ويطلب منها لقاءه في منزل ذويه البعيد ميلاً واحداً عن دار آل نيفن. التقيا دائماً في اسطبلات البيت ومَنبِته الزجاجي، لكنه يفتح لها الباب الأمامي هذه المرة كأنها «زائرة حقيقية» ويضحك لأنها قالت «مدام» حين ردّت على اتصاله. كانت في الثانية والعشرين، وكبرها بعام، واعتبرها أذكى منه، وسرّه ذلك. يلتقيان في غرفته الملأى بالشمس بعد ذهاب والديه للقاء آل نيفن وأهل خطيبته إيما هوبداي للغداء قبل أسبوعين من الزفاف. لا تنسى جين أنها خادمة حتى في مشاعرها، ولا تتساءل عما تحصل عليه من العلاقة التي طالت أكثر من ستة أعوام. كان يمكن الشعور الطبيعي بالغيرة والتملك أن يضفي تعقيداً وصراعاً، لكن الإحساس الوحيد الذي تسمح جين لنفسها به هو العزاء. كانت إيما الحسناء ثرية ما يجعل الزواج مدبراً في رأيها.
يقول بول إن عليه أن يلتقيها في الأولى والنصف من دون أن يذكر اسم خطيبته. لا يطلب من جين التي يدعوها جاي أن تغادر، ولا يستعجل مع أنه تأخر. تبقى في السرير، ويسلك كأنه توقع منها ذلك. بات كلاهما خبيراً في السرير، وهي أكيدة أنه لم يعرف أفضل منها كما لم تعرف أفضل منه. يدركان أنه لن يكون محامياً لأنه لا يدرس، لكنه كان واثقاً بنفسه كأن تلك الثقة حق لطبقته. يبدو وسيماً جداً وهو في كامل أناقته، وتغار من المرأة التي يتأنق من أجلها. هل يجهد في التأنق على رغم تأخره البالغ عن الغداء مع خطيبته من أجلها هي؟ يغادر أخيراً من دون أن يقبّلها أو يودعها، لكنه يوصيها أن تأكل إن جاعت. تسمعه يقهقه في الخارج، وتملأ الشمس الغرفة بفراغ مشرق.
تجول بلا ملابس في الدار كأنها تطيل اللقاء الأخير وتكتسب موقتاً حرية المالك القصوى في ملكه. تشعر أنها خفية في عريها، ومعفاة من الواقع، في إشارة ربما إلى حس المغامرة فيها. طلبت من مستر نيفن الإذن بقراءة كتبه، وأحبّت كتب المغامرة، «كتب الفتيان» كما دعاها مستغرباً. حين دخلت إلى غرفة المكتبة شعرت بالانتماء، وقبل أن تغادر مرّت بيدها على سروال بول وقطفت زهرة أوركيديا من المدخل. لا تقول حين تصبح روائية مشهورة إنها باتت كاتبة حين طافت دار آل شيرنغهام بلا ملابس، وشعرت بذاتها أكثر من أي يوم مضى، في الوقت الذي أحست أنها سُحِقت ووضعت على عتبة العالم.
هل كان يمكن أن تتغير الأحداث لو لم تردّ على اتصاله؟ تمتنع عن البوح بمشاعرها في ذلك اليوم الدافئ، وتترك خدمة آل نيفن بعد أشهر لتعمل في مكتبة في أكسفورد. تنام مع بعض زبائن المكتبة، وتلتقي الفيلسوف الذي سيصبح زوجها هناك. تقول إن الخسارة الثانية في حياتها جعلتها كاتبة أفضل وأكثر شهرة، لكن القارئ لا يرى تمهيداً لذلك لاعتماد سويفت لغة إخبارية سريعة في روايته التي تقتصر على 132 صفحة رغم التطويل والتكرار. تنشر في الثامنة والأربعين رواية صريحة جنسياً فتصدم وتكسب شهرة واسعة. تبقى وحيدة لتفاديها الإنجاب، وتعيش حتى الثامنة والتسعين من دون أن تكون شاهدة على قرن كما يجدر بها لبقاء شهادتها عامة حتى حين تتناول الأدب بما فيه أدبها.
تفتقر جين إلى الحساسية، ويثير ذلك التساؤل حول قدرتها أن تكون كاتبة عليها تقمّص شخصيات مختلفة. بقيت غرفتا ديك وفريدي نيفن كما كانتا بعد وفاتهما، ونظفتهما كأنهما ما زالا حيّين. استغربت الحفاظ عليهما بأثاثهما الكامل، وفكرت أنها ولدت في حِداد وتعجز عن فهم ذلك. لكن الكاتبة العتيدة لم تدرك أن ذلك أبقاهما موجودين بمعنى ما لأهلهما اللذين لم يعد لديهما ولد يتعزيان به، وأن عقمها العاطفي يثير العجب حول نجاحها الأدبي. يعتمد كُتّاب كثر الكتمان العاطفي لكنهم يشيرون إلى الحياة الداخلية في سلوك الشخصيات. غراهام سويفت الفائز بجائزة بوكر في 1996 عن «الطلبات الأخيرة» يكتفي بنص تسجيلي، عادي تراقب فيه العين من دون أن تعرّج على القلب. ليلة أحد الأم تناولت كتاب «شاب» لجوزف كونراد حين عجزت عن النوم. «ما كان بإمكانها أن تفعل غير ذلك؟ تبكي؟ وتبكي ثانية؟ في ذلك اللوح الصغير الذي دعي سريراً؟ قرأ الناس الكتب، أليس كذلك، لكي يهربوا من أنفسهم، من متاعب حياتهم؟».
تبوح جين عن إعجابها بجوزف كونراد، البحار البولندي الذي تعلّم الإنكليزية شاباً واستطاع الكتابة بها، وتتكتّم حول مشاعرها تجاه بول شيرنغهام. تحس بالصدمة شخصية حين تعرف أنه رحل، وتقع في حبه حين ترى صوراً له بلحيته، جدّيته وعينيه اللتين تبدوان كأنهما تريان شيئاً بعيداً كان أيضاً في الداخل العميق. تتخيله أحياناً معها في السرير، بجسده العاري العجوز، وهما يستلقيان ويراقبان دخان سجائرهما تصعد إلى السقف وتتشابكان تحته، كأن الدخان حمل حقيقة أكبر من أن يجد أيهما كلمات تصفها.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى