«الفوتوغراف» والتشكيل: علاقة الأنساق والمحاذير الأخلاقية
محمد حنون
مع انتشار الفوتوغراف في أوروبا وأمريكا، بدأ الحراك الفني التجريبي بالتزايد، من خلال محاولات اكتشاف إمكانات وطاقات الكاميرا التعبيرية والفنية المغايرة. في تلك المرحلة المهمة ظهرت عدة مدارس فوتوغرافية من حيث الأسلوبية والبناء البصري الفني والتوثيقي، وترافق مع هذا ظهور مدارس نقدية، استعارت في جوانب عديدة منها الكثير من المفاهيم والمسميات والمصطلحات النقدية في المدارس التشكيلية.
مثال على ذلك، ما نجده في تسمية «التجريد الفوتوغرافي»، وهو من التيارات التي بدأت مبكرا منذ بدايات القرن العشرين، حيث أن المصطلح نفسه؛ صيغ بعد ظهور أعمال الفوتوغرافي الأمريكي ألفين كوبورن، الذي يعتبر الفوتوغرافي الريادي لمثل هذا النوع، حيث عزز الإمكانات البصرية الفنية الفوتوغرافية للكاميرا، من خلال تقديم نماذج فوتوغرافية مبكرة في التجريد، التي شكَّلت مكانته الفنية في الوسط الفوتوغرفي وذاع صيته فيه، وأسست كذلك لهذا التيار الفوتوغرافي ما بين عام 1900 إلى 1905، في الوقت الذي كان فيه الفوتوغراف فنا حديثا نوعا ما.
اعتمد كوبورن في التقاط صوره التجريدية، على تحديد البناءات البصرية المتناسقة، إما من حيث التوازنات ما بين الكتلة والفراغ، أو من حيث العلاقة ما بين الضوء والظل ومع تركيزه على المشهدية التي تحمل إيقاعا بصريا مكررا.
في العام السادس، أي عام 1906 أضاف كوبورن على هذه الريادة مشروعا فوتوغرافيا، وُصف بالفترة «الرمزية» في مسيرته، من قبل نقاد عصره، حيث شمل هذا المشروع صور بورتريه للنحات الشهير رودان والمسرحي الأشهر جورج برنارد شو.
ويظل التجريد الفوتوغرافي والرمزية الفوتوغرافية فنا فوتوغرافيا، على الرغم من إيحاءات المسميات، وتعتبر صورها صورا فوتوغرافية إذا ما كانت مقدمة للجمهور بصيغتها النقية، بعيدا عن أي إضافات رقمية أو حسية. لكن ما هو الحد الفاصل بين المعالجة المقبولة للصور، والتغيير فيها وإضافة عليها جماليات وعناصر ليست فيها؟
وهو التساؤل المثار حاليا بشكل كبير بعد توالي اكتشافات الصورة بعد الأخرى، انتهاء بصورته التي صنعت شهرته، وهي صورة الفتاة الأفغانية، للمصور الفوتوغرافي الأشهر، ومصور مجلة «ناشيونال جيوغرافيك» ستيفين مكوري، حيث تبين أن العديد من صوره الفوتوغرافية الشهيرة تبين أنه تلاعب بها، وقام بإضافة عناصر إليها وحذف أخرى، أو كما يدعي هو، بأن ذلك قد تم على يد تقنيي المختبر الذي يتعامل معهم.
اذا ما هو الحد الفاصل، أو القيمة الفنية النقدية، التي على أساسها يتم الاختيار بين تصنيف العمل الفني فوتوغرافا أو فنا رقميا أو عملا فنيا تشكيليا، حين تكون أساس هذا العمل صورة فوتوغرافية؟
لنبدأ بالأمر ما قبل برامج الكمبيوتر والمعالجة الرقمية. كثير من المشتغلين بالفن التشكيلي، ومنذ ظهور التصوير الفوتوغرافي في بدايات القرن التاسع عشر، لجأوا للصورة الفوتوغرافية كأساس للوحاتهم الفنية لأسباب عدة: منها استغلال الكتل المتقنة والجاهزة في الصورة، التي يتم اختيارها كونها تعبر عن مضمون العمل من حيث السياق والبناء والفكرة، ومن هذه الأسباب كذلك محاولة العثور على طاقات تعبيرية في البناء الفني الواقعي، لتقديم إيقاعات بصرية جديدة.
في بدايات التعامل مع فن الـ«الكولاج» وترسيخه كمدرسة فنية في إطار الرسم أو الفن التشكيلي من قبل الفنانين براك وبيكاسو في بدايات القرن العشرين، لم يقم أي من الفنانين الادعاء بأن أعمالهم هذه لا تزال تقع في مصنف الرسم بمفهومه الكلاسيكي، على الرغم من أن عنصر الرسم لا يزال موجودا، لذلك لجآ إلى تسمية هذا النوع من الفن بالـ«كولاج»، وهو ما يعني بالفرنسية «اللصق»! وفي الوقت نفسه، وعلى الرغم من أن اللوحة تحوي العديد من الصور، أو صورة رئيسية كأساس للعمل، وقد تكون حتى من تصوير الفنانين، إلا أنهما لم يقوما بتصنيف العمل كفن فوتوغرافي، ولم يطرحا نفسيهما كفوتوغرافيين.
وعلى سبيل المثال وليس الحصر، حين يقوم مصور ما بتحويل صورته من الملون إلى الأبيض والأسود رقميا، فهذا أمر مشروع، ولكن الأمر غير المشروع هو التغيير في الصورة وإغراقها بفلاتر التنقية «السوفت» الرقمية وإضافة تطبيقات جمالية، كتلك التي تحول الصورة إلى ما يشبه العمل الفني الفوتوغرافي القديم، أو كالرسم اليـــدوي بالرصاص، أو «الإتشينغ»، أي الخدش على الورق، (وهو ما شاهدته في الأردن لصور من القدس ومكة عند أحد المصورين، تبدو كأنها رسمت بقلم الرصاص أو بالخدش على الورق).
كل هذا لا يقلل من المشروعية الفنية، سواء الرسم على الصورة الفوتوغرافية أو اللصق عليها، أو التعديل الرقمي الفني على الصورة الفوتوغرافية وتغيير طبيعتها الفوتوغــرافية.
تعتبر هذه الأعمال أعمالا فنية نشأت مع ظهور التصوير الفوتوغرافي، ولاحقا مع تطور التقنيات الرقمية وتطبيقات التعديل والمعالجة.
المصور الفوتوغرافي هو الذي ينتج صورة فوتوغرافية خالصة بمواصفات كلاسيكية، مطابقة للواقع كما هو، بعيدا عن أي اضافات رقمية، إلا المتعارف عليها ضمن الحدود المسموح بها، والفنان التشكيلي الذي يلجأ لاستخدام صورة من تصويره، كأساس للوحة تشكيلية مع إضافات رقمية أو فعلية يدوية عليها، لا تخرجه من خانة التشكيلي إلى خانة الفوتوغرافي، بل يكون الأمر هو أن الفنان قد أضاف الكاميرا والصورة الفوتوغرافية إلى أدواته التشكيلية.
والفنان الغرافيكي، إذا ما جاز التعبير، الذي يلتقط صورة بمواصفات عادية وواضحة ومن ثمة يحولها إلى عمل فني غرافيك ذي مواصفات جمالية ولونية ومشهدية فنية رقمية، ولكن مقوماتها الجمالية لم تعد من معطيات الواقع، يكون يخالف أبسط مفاهيم التصوير الضوئي/ الفوتوغرافي الكلاسيكي إذا ما قدم العمل هذا كتصوير فوتوغرافي، سواء كان قد التقط الصورة بتقنيات الفيلم أو بتقنيات رقمية حديثة. أما إذا قدم العمل كعمل فني رقمي غرافي، فإن ذلك أمر مقبول، وهو فن قائم وله جمالياته وجمهوره والمشتغلين فيه كما أسلفت.
إن أكثر ما يمكن إضافته أو تعديله في الصورة الفوتوغرافية لكي تحافظ على وصفها كصورة فوتوغرافية، هي التعديلات المتعارف عليها. وفي العصر الرقمي، صار من السهل الاقتطاع من داخل الصورة أو الإضافة إليها، وهو ما يعتبر أمرا غير أخلاقي، وغير أخلاقي حين يقدم العمل كتصوير فوتوغرافي.
(القدس العربي)