«أنا أتذكر»: «مئة ليلة وليلة» في مونتريال (1)

فاروق ابو ظهر
الرحلة من «مطار شارل ديغول» إلى مطار «بيار ترودو» في مونتريال، استغرقت حوالي السبع ساعات، وصولنا كان ظهر اليوم الأول من الأسبوع الثاني من شهر أيار الماضي، وجاء على وقع أبناء الحرائق المستعرة والمستمرة منذ أسبوع في مقاطعة ألبرتا الشمالية الغنية بالنفط، وسببت خسائر فادحة.
المطار ليس كبيراً، إلا أنه منظم وعملية الخروج ليست معقدة، تعامل رجال الأمن عند نقاط تسليم الاستمارة التي قمنا بإملائها، وعند ختم الجواز، كان بمنتهى الاحترام والحرص على تسهيل عملية استلام الحقائب والخروج.
كندا دولة كبيرة مترامية الأطراف، تستوي على شكل قوس فوق الجزء الشمالي للولايات المتحدة، يمتد من المحيط الأطلسي شرقاً وحتى المحيط الهادئ غرباً. مساحات هائلة من الغابات والبحيرات تبدو من نافذة الطائرة ونحن نقترب من الهبوط. مساحتها الإجمالية بالتحديد 9.980.670 كلم2، الثانية عالمياً بعد روسيا وعدد سكانها ضئيل نسبياً بحدود 36 مليون نسمة، متعددة الأعراق، غالبيتهم من أصول إنكليزية وبالدرجة الثانية فرنسية. اتساعها ليس عنصر القوة الوحيد، هي دولة زراعية وافرة بإنتاج محاصيل القمح والذرة وتمتلك ثروة حرجية هائلة لإنتاج الأخشاب بالإضافة إلى إنتاج نفطي يقارب الأربعة ملايين برميل يومياً. كما تمتلك كندا قاعدة صناعية متطورة جداً ومنتجات تكنولوجية خاصة في قطاع الاتصالات والطائرات وفي إنتاج التبغ.
انفصلت كندا عن بريطانيا العظمى، وأصبحت دولة فدرالية عام 1867. وكانت مؤلفة آنذاك من أربع مقاطعات، وبعد تعديل القانون ضمت إليها مقاطعات إضافية وقسمت إلى عشر مقاطعات وثلاثة أقاليم. ثماني مقاطعات تضم غالبية إنكليزية، واحدة تضم غالبية فرنسية والعاشرة تضم مواطنين من الطرفين.
عاشت الملكة
ملكة بريطانيا، إليزابيث الثانية هي رأس الدولة الكندية رسمياً، أما السلطة الفعلية فهي بيد برلمان فدرالي وحكومة فدرالية تتولى الشؤون السيادية، بينما تتمتع المقاطعات بنظام فدرالي، وحكم ذاتي متطور، يطال شؤون المواطنين وحياتهم اليومية، ولكل مقاطعة مجلس تشريعي وحكومة محلية.
علم كندا، عبارة عن ورقة شجرة حمراء اللون، ترمز إلى شجرة «إرابل» التي يشق جذعها ويستخرج لحاقها، وهو عبارة عن سائل سكري الطعم، يستخدم بشكل واسع في صنع الحلويات والأطعمة، ويوضب في قوارير مختلفة الأشكال والأحجام ويستهوي السياح.
في ذروة النشاط الاستعماري، ابتداء من القرن الخامس عشر، استعمرت كل من بريطانيا وفرنسا، معظم أجزاء أميركا الشمالية، الولايات المتحدة وكندا والتي كانت مسكونة من قبل قبائل هندية. دارت بين الطرفين، نزاعات وحروب طويلة، ذروتها كانت، حرب السبع سنوات، وكان لها وقع عالمي، لأنها حصلت بين دولتين أوروبيتين فوق أرض أميركية.
حقق الإنكليز الانتصار على فرنسا عام 1760، ووقعت بين الطرفين معاهدة باريس عام 1763، تداعيات تلك المعاهدة كانت مذلة للطرف الفرنسي. مارس الإنكليز كل أنواع الإقصاء والقهر ومصادرة الأراضي وسلب أملاك الفرنسيين، حتى أن الحاكم الإنكليزي جيمس موري، أصدر قراراً يقضي بحرمان كل من يعتنق المذهب الكاثوليكي، من حق التملك وممارسة الحقوق المدنية. وإزاء هذا الواقع المزري، هاجر أكثر من مليون كندي ـ فرنسي إلى الولايات المتحدة، سعياً للعمل في مزارعها ومصانعها.
«أنا أتذكر» (je me souviens)، نص محفور على كل لوحة سيارة مسجلة في مقاطعة كيبيك، جملة مثيرة للفضول والتساؤل، إنها ترجمة لمرحلة أليمة عاشها الفرنسيون، محفورة في القلوب كما حفرت على اللوحة المعدنية.
النزاع بين ذوي الأصول الإنكليزية والفرنسية ما زال محتدماً، وإن لم يعد دموياً كما كان في الماضي، تحول وأخذ أبعاداً سياسية وثقافية واقتصادية، البعض يعطي الخلاف بعداً آخر، إنه خلاف بين الفرنكوفونية والإنغلوفونية.
يعود الفضل في وضع حد لتفاقم الصراع اللغوي بين الفريقين إلى رئيس الوزراء الأسبق بيار ترودو (والد رئيس الوزراء الحالي) عندما نجح إبان ولايته أواخر الستينيات من القرن الماضي في تمرير قانون فدرالي، يضمن ثنائية اللغتين في كل الدوائر الرسمية وحتى على الأوراق النقدية، تستعمل الإنكليزية والفرنسية معاً. ويضمن القانون حق كل مقاطعة في اختيار اللغة الأم في الصفوف الابتدائية على أن تفرض اللغتين في باقي مراحل التعليم.
ذكرى السفينة
«حزب كيبيك» الذي أسسه رينيه لوفييك العام 1968، ما زال حتى اليوم يحمل تطلعات انفصالية، صحيح أن زعماء الحزب الحاليين، هم أكثر ديموقراطية وقبولاً للنظام الفدرالي، إلا أنهم يشتكون دوماً من هيمنة الإنكليز على المال والاقتصاد، ويرفعون الصوت استياءً لاحتكار المناصب العليا في الدولة.
يحرص أهل كيبيك، على تكريس الإرث الثقافي الفرنسي في كل أنحاء المقاطعة البالغ عدد سكانها ثمانية ملايين نسمة، ويبتكرون وسائل ذكية وخلاقة، ويسخّرون تاريخهم وثقافتهم في خدمة اللغة الفرنسية، باعتبارها السلاح الوحيد الذي يؤكد وجودهم.
في قاعة الانتظار، لدى مغادرة مطار مونتريال، وضع مجسم ضخم لسفينة، داخل واجهة زجاجية، كانت قد أقلعت من الشواطئ الفرنسية عام 1642، على متنها 56 راكباً، رجالا ونساء وأطفالا، بقيادة مغامر بحار يدعى بول ميشو نيدي، حطت رحالها عند جزيرة «فيلي ماري» والتي سميت مونتريال منذ أوائل القرن الثامن عشر، بعد 375 ســنة ما زالت مقاطعة كيبيك تحتفل بذكرى قدوم تلك السفينة.
مئة مهرجان لمئة ليلة
مونتريال، عاصمة مقاطعة كيبيك، تقع فوق جزيرة وسط نهر سان لوران، عند التقائه مع نهر أوتاوا، عدد سكانها حوالي المليونين، ثلثاهم من جذور فرنسية، ما يجعلها أكبر مدينة في العالم ناطقة بالفرنسية بعد باريس.
في إطار تأكيدها أهمية التراث الفرنسي، تنظم مونتريال سنوياً أكثر من مئة مهرجان عالمي يتناول كل الجوانب التراثية والعادات: مهرجان الجاز ـ مهرجان الفيلم العالمي ـ برنامج شهير للفكاهة ـ مسابقة أفضل طباخ ـ أفضل كتاب ـ أفضل مسرحية ـ أفضل مغني أو مغنية ـ عروض أزياء.
«إنها مئة ليلة متوالية لا تنام فيها مونتريال»، كما قال أحد المعلقين الإذاعيين، تصدح موسيقى الفرق المختلفة الأعراق في كل أجزاء المدينة وحتى صياح الديك.
بدورها، تحاول المقاطعات الإنكليزية مجاراة مونتريال وذلك بتنظيم نشاطات ومهرجانات خاصة بالتراث الإنكليزي، في تورنتو وأوتاوا وفانكوفر.
مونتريال، جزيرة بين نهرين، لها تكوين طبيعي في غاية الجمال، والتنوع، هذا التنوع وهبها سر من أسرار جمالها. هي عريقة القدم في بعض أجزائها. منطقة مونتريال القديمة، تضم العديد من مباني الطراز الأوروبي التي تمتد من ضفاف نهر سان لوران صعوداً حتى هضبة «مون رويال»، ميزة هذه المنطقة أنها الأكثر انخفاضاً عن سطح الأرض، وتتصل تلك المنطقة عند صعودها مع منطقة سان جاك، العصب المالي للمدينة، حيث تنتشر المباني الحديثة، التي بنيت وفق الطراز النيوبوركي الأميركي؛ أبراج وناطحات سحاب، تضم الشركات المتعددة الجنسية والبنوك وشركات النفط.
(السفير)