«كارلوفي فاري» … بؤس أوروبا الشرقية وشيء من الربيع العربي في مهرجان المهرجانات
كارلوفي فاري – فـيكي حبيب
يفتتح مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي هذا المساء دورته الـ51، معلناً عن تسعة أيام من الاكتشافات في ربوع الفن السابع.
9 أيام ستتخلى فيها كارلوفي فاري أو «كارلسباد»، كما يطلق عليها بالألمانية، عن هدوء ذاك الوادي الساحر الواقع غرب بوهيميا، لتعيش صخب عالم المشاهير وتقتنصها فلاشات عدسات المصورين.
فهذه المدينة التشيخية التي تبعد عن العاصمة براغ حوالى 130 كيلومتراً، إذ بنت سمعتها بفضل ينابيعها الحارة التي اكتشفها، كما تقول الروايات، عام 1350 الملك تشارلز الرابع خلال رحلة صيد، تحوّلت مع الزمن إلى منتجع طبيعي، وسرعان ما باتت مقصداً للزوار من كل أنحاء العالم بهدف العلاج والاستجمام، ومنهم أسماء كبيرة مثل بيتهوفن وموزار وكافكا وغوته وكارل ماركس.
من السياحة إلى الثقافة
غير أن الينابيع الحارة والطبيعة الخلابة والهندسة المعمارية الآخذة في تناسقها وجمالها راحة نزلاء المنتجعات، لم تكن وحدها عامل جذب للمشاهير، بل يرتبط اسم المدينة أيضاً بنشاطات ثقافية، لعل أهمها: مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي الذي يعدّ أحد أقدم المهرجانات السينمائية الدولية في أوروبا (1948)، وقد اعتادت المدينة أن تحتفي به في السنوات الأخيرة سنوياً بعدما كان يقام مرة كل عامين حين كانت أوروبا الشرقية تحت رحمة الحكم الشيوعي.
ولم يكن غريباً أن يستقطب المهرجان المنتفض على الاتحاد السوفياتي بعد انهياره، وعلى مدى دوراته المتعاقبة، نجوماً من هوليوود مثل ريتشارد غير وليوناردو دي كابريو وميل غيبسون وهارفي كيتل وهيلين ميرين وسكارليت جوهانسون وبين كينغسلي وجود لو وسوزان ساروندون وجون ترافولتا وروبرت ريدفورد وروبرت دي نيرو ومورغان فريمان ومايكل دوغلاس… من دون أن ننسى سينمائيين كباراً حطّوا هنا، مثل رومان بولانسكي وميلوش فورمان وستيفن فريرز وكارلوس سورا.
لكنّ مهرجان كارلوفي فاري ليس مهرجاناً للنجوم، وإن كان لا يخلو منهم، بل هو قبل أي شيء آخر مهرجان للجمهور. أو هذا على الأقل ما يوحي به الزحف الشبابي الذي يقصد كارلوفي فاري من كل أنحاء تشيخيا في موسمها السينمائي هذا، للوقوف على جديد عالم الفن السابع. ويقيناً أن التسهيلات التي تقدمها إدارة المهرجان لجمهورها، تعزز مثل هذا الاندفاع. وحسبنا أن نشير إلى «قرية الخيم» التي تُنصب في إحدى ساحات المدينة خلال أيام المهرجان لإيواء «سينيفيليين» أو مجرد مشاهدين، ليس بمقدورهم تحمّل تكاليف غرفة في فندق من الفنادق الكثيرة التي تعجّ بها المدينة. وتبقى، طبعاً، الأفلام عامل الجذب الأساس في مهرجان مخصص للسينما. ولا تشذ هذه الدورة عن سابقاتها، بكمّ الأفلام الكبير الذي يعرض على شاشات كارلوفي فاري، ويزيد عددها على 200 فيلم جديد.
أذواق سينمائية
أكثر من 200 فيلم؟ رقم قد يبدو للوهلة الأولى عاملاً من شأنه أن يشتت ذهن المتفرج العادي، بحيث لا يعود يدري ماذا يختار. لكنّ تجربة السنوات الماضية كفيلة بدحض هذه الفكرة، بخاصة أن توزيع الأفلام المنظم على 18 فئة، يضع في الحسبان الأذواق السينمائية المختلفة. وبالتالي لن يخيب أمل قاصدي المهرجان، مهما اختلفت اهتماماتهم، بل سيجد حتماً كل واحد منهم ما يجذبه في هذه البرمجة الغنية. وهكذا، سيلجأ محبو الاكتشافات السينمائية إلى مسابقة الأفلام الروائية الطويلة التي تضم 12 فيلماً، ثمانية منها في عرض عالمي أول، و4 في عرض دولي أول. أما محبو أفلام أوروبا الشرقية فلهم أيضاً مسابقتهم (مسابقة شرق الغرب) من خلال 12 فيلماً موزعة بين تشيخيا وروسيا وجورجيا وهنغاريا وإستونيا وبولندا وسلوفانيا وكوسوفو ورومانيا وليتوانيا، بينها 5 أفلام عرض عالمي أول، وستة أفلام عرض دولي أول، وفيلم عرض أوروبي أول. ولمحبي الأفلام الوثائقية مسابقتهم أيضاً من خلال 12 فيلماً، 3 منها عرض عالمي أول و3 عرض دولي أول و6 عرض أوروبي أول.
أما محبو الأفلام السينمائية التي سبقها صيتها إلى كارلوفي فاري بعدما شاركت في مهرجانات كبيرة مثل «كان» و«برلين» و«فينيسيا»، فسيكون لهم ما يريدون من خلال أقسام خارج المسابقة، مثل «آفاق» و«عروض خاصة» و«نظرة أخرى». فمثلاً يُعرض على شاشات كارلوفي فاري فيلم «نار في البحر» للمخرج الإيطالي جيانفرانكو روسي الفائز بجائزة «الدب الذهبي» في الدورة الأخيرة من مهرجان برلين السينمائي (تدور قصته حول محنة المهاجرين وهم يجتازون البحر باتجاه أوروبا، والحياة اليومية التي يعيشها سكان جزيرة لامبيدوسا الإيطالية). وهناك أيضاً الفيلم الفائز في المهرجان ذاته بجائزة الدب الفضي لأفضل سيناريو: «يونايتد ستيتس أوف لاف» أو «ولايات الحب المتحدة» للمخرج البولندي توماس فاسيليفسكي. ومن مهرجان فينيسيا سنكون على موعد مع الفيلم التركي «أبلوكا» («نوبة جنون») للمخرج السينمائي أمين ألبير الحائز جائزة التحكيم الخاصة (يصوّر إسطنبول على أنها في خضم حملة تفجيرات إرهابية للإضاءة على المناخ السياسي الذي يقود الناس نحو جنون العظمة ودمار المجتمع). أما مهرجان «كان» فله حصة الأسد من العروض المستعادة في كارلوفي فاري، إذ سيكون الجمهور التشيخي على موعد مع الفيلم الحاصل على الجائزة الكبرى في «كان»: «فقط نهاية العالم» للمخرج الكندي كزافييه دولان.
وأيضاً الفيلم الحائز على جائزة أفضل إخراج بالتساوي مع فيلم أوليفييه أسايس: «باكالوريا» للروماني كريستيان مونجيو، والفيلم الحائز على جائزة أفضل ممثلة للفيليبينية جاكلين خوزيه («ما روزا»). وهناك فيلم افتتاح «كان»: «كافيه سوسايتي» للمخرج الأميركي وودي ألن، وفيلم بيدرو ألمودوفار «خولييتا» -الذي شكل الخيبة الكبرى في المهرجان الفرنسي بالنسبة إلى بعضهم فيما اعتبره آخرون نقلة نوعية في سينما المعلم الإسباني الكبير -، وفيلم جيم جارموش «باترسون»… وبين هذا وذاك سنشاهد أفلاماً تنافست على «السعفة الذهبية» في الريفييرا الفرنسية مثل «أكواريوس» للبرازيلي كليبر ميندوسا فيليو أو «أغاسي» (مادموازيل) للمخرج الكوري الجنوبي بارك شان ووك أو أفلام شاركت في أقسام أخرى مثل «ميموزا» الفائز بجائزة «أسبوع النقاد».
واللافت أن هذا الفيلم الأخير، وإن كان يحمل توقيع المخرج الإسباني أوليفر لاكس غير أن حكايته تدور في عالمنا العربي، وتحديداً في المغرب، حول 3 شبان تتقاطع دربهم مع شيخ يفصح لهم عن أمنيته الأخيرة في أن يدفن في «سجلماسة»، حيث مسقط رأسه. لكنّ العجوز يفارق الحياة قبل أن تطأ قدماه البلدة، فيأخذ الشبان على عاتقهم مهمة تحقيق رغبته، وينطلقون في رحلة زاخرة بالأخطار عبر جبال الأطلس.
عرب على الشاشات
وإذا كانت حكاية فيلم «ميموزا» حكاية من بلادنا بتوقيع مخرج أجنبي (على رغم كونها حكاية عالمية قد تنطبق في أي زمان ومكان)، فإن العرب لا يغيبون عن شاشات كارلوفي فاري، بل هم حاضرون بحكاياتهم وقضاياهم من خلال أربعة أفلام تحمل تواقيع مخرجين من مصر ولبنان والمغرب وتونس… من دون أن ننسى قطر التي تشارك في إنتاج خمسة أفلام، والإمارات التي تشارك في إنتاج فيلمين.
ولعل نظرة سريعة على هذه الأفلام، تعبّر عن توجه المهرجان نحو شرائط سينمائية تشي بالكثير حول مجتمعاتها، فتطالعنا هنا مجتمعات ممزقة، تبحث عن خلاص مفقود.
أول هذه الأفلام، مصري الجنسية بعنوان «بلد مين؟» للمخرج محمد صيام الذي سيمثل العرب وحده في المسابقة الرسمية، وتحديداً في مسابقة الأفلام الوثائقية. الفيلم مدعوم من الصندوق العربي للثقافة والفنون «آفاق»، وهو، كما نقرأ عنه، «يتتبع عناصر من شرطة القاهرة أثناء عملهم وفي حياتهم اليومية، مظهراً كيف أدّى انعدام العدالة في السجون وتجاوزات الشرطة بحق المدنيين والفساد المستشري في أجهزة الأمن، إلى ثورة يناير 2011. في الوقت ذاته، وفي مواجهة الغليان السياسي الذي عصف بمصر بعد سقوط مبارك، يتصارع المخرج مع ذكرى والده الذي كان يعمل سابقاً كتحرٍ جنائي».
الربيع العربي والنظام البوليسي حاضران أيضاً في المهرجان التشيخي، ولكن هذه المرة من خلال الفيلم التونسي «على حلّة عيني» الذي يشارك ضمن فئة «اختيارات نقاد فارايتي». والفيلم من توقيع المخرجة ليلى بو زيد التي تنبش ثقل الماضي من خلال قصة تدور في صيف 2010، قبل أشهر من سقوط نظام زين العابدين بن علي، بعد ثورة شعبية كان بطلها شباب تونس. في «على حلة عيني»، نتتبع «فرح» ابنة الـ18 ربيعاً في رحلة اكتشافها الحب والفن والصداقة، ولكن أيضاً الخيانة والظلم والخوف وسط نظام بوليسي أمني لا يمكن الهروب منه.
أزمة هوية
ثقل الماضي يحاصر أيضاً «ربيع» بطل الفيلم اللبناني Tramontane للمخرج فاتشي بولغورجيان. ربيع الذي يحمل عنوان الفيلم اسمه في ترجمته العربية، «شاب ضرير يعيش في قرية صغيرة في لبنان. يغني في جوقة ويحرر وثائق بلغة البريل للمكفوفين كوسيلة للعيش. ولكن، سرعان ما تنهار حياته عندما يقدم طلباً للحصول على جواز سفر من أجل جولة غنائية في أوروبا فيكتشف أن هويته التي حملها طوال حياته مزيّفة. ولهذا يقرر أن يسافر إلى الريف اللبناني بحثاً عن سجلات ميلاده، وهناك يقابل أفراداً يعيشون بعيداً من المجتمع، يروون له قصصهم الخاصة ويعطونه في المقابل إشارات مجتزأة صغيرة على هويته الحقيقية، فيقع في الفراغ إذ يكتشف في نهاية الأمر أنه يعيش في وطن عاجز عن إخباره قصته».
الفيلم شارك في مهرجان كان حيث فاز بجائزة على الهامش هي «جائزة السكة الذهبية» التي تمنحها جمعية موظفي سكك الحديد الذين تتاح لهم الفرصة سنوياً للمشاركة بتكريم فيلم مشارك في «أسبوع النقاد».
أما الفيلم الذي اعتبر الرابح الأكبر في «كان» بين الأفلام العربية بعدما خطف جائزة «الكاميرا الذهبية» التي تكافئ العمل الأول للمخرج، فحجز مقعده أيضاً بين العروض.
الفيلم هو «ديفين» (إلهيات) للمخرجة المغربية الفرنسية هدى بنيمّينة، وتصور فيه بؤس الضواحي من خلال قصة فتاة مراهقة تعيش في أحد الأحياء الفرنسية التي يسكنها مسلمون متشددون، وتحلم بالثراء والشهرة.
إذاً أربعة أفلام عربية، تقدم نظرة معمقة إلى مجتمعات تبحث عن هويتها وتنشد التغيير بعيداً من الواقع القاتم الذي يكبّل الفرد بأثقال ماضٍ لا يمضي.
ماضٍ من نوع آخر سيشهده افتتاح المهرجان هذا المساء من خلال العودة إلى التاريخ، وتحديداً تاريخ تشيخيا حين كانت يوماً مقترنة بسلوفاكيا تحت اسم تشيكوسلوفاكيا.
الفيلم صوّر في براغ بين تموز (يوليو) وأيلول (سبتمبر) مـــن العام الماضي، وتدور أحداثه خلال الحرب العالمية الثانية حول قصة حقيقية جرت عام 1941 حول عملية «أنتروبويد» التي يحمل الفيلم اسمها (Anthropoid). وهو الاسم الرمزي لمحاولة الاغتيال التي استهدفت الضابط النازي رينهارد هيدريتش الذي كان أحد كبار الشخصيات في الرايخ الثالث، ويعد من أبرز مهندسي «الحل النهائي» لليهود.
ويفيدنا التاريخ، والفيلم بالتالي أن العملية نفذت في براغ على يد ضابطين تشيخيين، وفقاً لمخطط بريطاني بموافقة الحكومة التشيخية في المنفى. وكانت النتيجة إصابة هيدريتش جراء الاعتداء، ووفاته لاحقاً متأثراً بجروحه لتبدأ موجة من عمليات انتقامية عنيفة اقترفتها القوات الألمانية بحق المدنيين.
ومن الواضح أن الدورة الجديدة لـ«كارلوفي فاري» تدخل ضيوفها بهذا الفيلم، ومنذ اليوم الأول، في وهاد التاريخ. هذا التاريـــخ الذي بدلاً من أن يمضي إلى متاحف النسيــــان، ينحــــو أكثر وأكثر ليكون غذاء الأفلام الأكثر إثارة للفضول والجدل في الإنتاج السينمائي الراهن.
إنتاج يضع مهرجان «كارلوفي فاري» المتفرجين على تماس مع صورته الأحدث في العالم من خلال عشرات الأفلام التي تبدو في عرضها إلى جانب بعضها البعض هنا أشبه بصورة بانورامية لسينمات العالم كله… تقريباً.
(الحياة)