أشجار ..قصة للقاص محمد حمدان الرقب

خاص (الجسرة)
في طريقي المعتاد إلى الجامعة، وفي زحمة الطريق والمواصلات، شقّت الحافلة طريقها بصعوبة، فاليوم هو الخميس أكثر أيّام الأسبوع ازدحامًا، حيث الساعة الثانية والنصف، أوبةَ الموظّفين من أعمالهم، السيّارات أكثر من الناس، وأصوات الأبواق تتداخل تداخلًا عجيبًا، وإشارة المرور تفتح ضوءَها الأخضر قليلًا وتحمرّ كثيرًا، كأنها جاثمة على صدْري. أجلس على كرسيّ بلاستيكيّ غير مريح، والعرق يتفصّد من فوق جبيني ينزلق إلى خدّي، أمسحه بمنديلٍ ورقيّ.
أسند رأسي على النافذة، مطلًّا خارجًا بعينيّ التّعبتين، تلعب بعقلي فكرة أن أنزل من الحافلة، وأكمل سيري إلى الجامعة ماشيًا، ربّما سأصل أسرعَ منها(!) أو أن يكون للحافلة أجنحة ترتفع بهما عن هذا الزّحام وتطير فوق الشوارع والإشارات الضوئيّة والمباني التجارية ثمّ تتهادى في ساحة الجامعة.
هذه معاناتي اليوميّة، كأن معدتي قِرْبةً مليئة بالماء، والحافلة تخضّني، فأكاد أتقيّأ، أدعو الله تعالى ألّا أفعلها أمام النّاس، فأتماسك وأتمالك.
أُبْصِرُ شجرةً جذعها مائلٌ إلى إحدى الجهات ميلانًا واضحًا. أوراقها مغبرّة من كثرة الدخان المنبعث من السيارات. لا أدري، كيف خطر لي، وأنا أشاهد هذه الشجرة المعوجّة، زميلٌ لنا كان يدرس معنا في المدرسة الإعدادية، يجلس في آخر الغرفة الصفّية، ويثير الشغب ويشيع جوّ الفوضى، ولا يترك لا لي ولا لبقيّة الطلاب لمتابعة شرح المعلّم، وكان حاذقًا في ابتزاز الطلّاب وسرقتهم مصروفهم اليوميّ القليل. كان أغلب التلاميذ من عائلات فقيرة مُعدَمة، بملابس رثّة مهلهلة، وأجسام متّسخة، ومع ذلك نبغ بعضهم فيما بعْدُ (!) ليس للحياة منطق إذن (!)
علمت فيما بعْدُ، أنّ أحواله التي مرّ بها سيّئة، عكست هذا النهج التخريبيّ الذي تأصّل فيه وتجذّر؛ فوالده مديرٌ عامٌ لإحدى الشركات، انفصل عن أمّه، وهو في الرابعة من عمره، بعد خلافات حادّة بينهما، وراح هو ضحيّة الاثنين، لا الأب يتعهّده أو يسأل عنه، ولا الأم قادرة على تربيته وتنشئته، فانتقلا إلى بيت أهلها، وثَمّ تفنّن أخواله في الانتقاص منه وتقريعه وامتطائه، كأنه عَبْدٌ مملوك يتحّكمون به وبمصيره كما يشاء لهم ذلك (!). وشاءت الظروف أن يتعرّف هذا الطفل حينما كبر إلى رفقاء السوء، ولا يأتي من رفقاء السوء إلّا العار والمتاعب، فسرعان ما انسلّ معهم واندمج، بعيدًا عن رقابة الدين الأهل والمجتمع.
ينزل رجلٌ من الحافلة بعيدًا قليلًا عن المكان الذي يريد النزول إليه، فيظهر الضّجَر، ويلاسن السائق، وكادت أن تتحول المشادّة بينهما إلى تضارب لولا لطف الله.
صَوْتُ محرّك الحافلة مزعج وحادّ، كأن مثقبًا يخترق جدار رأسي، ودماغي مرجل يغْلي. الساعة الثالثة والنصف بعد الظّهر، ولم تسرِ الحافلة نصف المسافة، يا إلهي، سأتأخّر عن موعد محاضرتي، وسينقطع نفَسي حتّى ألحق بها.
يُشْعِل رجلٌ سيجارَته، فيخترق دخانها رأسي، ويضيق نَفَسي، ويصل إلى السائق، فيأمرَه أن يُطفئ سيجارته. يا إلهي (!) التدخين يؤثّر في الصحة، ولكنّ دخان الحافلة نفسِها لا يؤثّر ليس في صحّة الإنسان فحسب، بل يؤثّر في صحّة الأرض (!). والدخان المنبعث من المصانع والمعامل، ألا يوجد أحدٌ يقول لأصحابها: أطفئ دخانك (!).
شجرة أخرى أثارت تأمّلي، بالرّغم منّي، معوجّة. مقوّسة من الأسفل كهلال، ثمّ تعود إلى استقامتها بإسناد جدارٍ لها، وبقربها شابّ يحمل في يديه حقيبة جلديّة سوداء، ربّما ينتظر سيّارة أجرة في هذه البقعة المزدحمة بالمركبات. لم أدرِ كيف تذكّرت صديقًا لي، حدّثني، بعد أن أزيحت من بيننا الكلفة ورفع ستار الخجل، أنّه تعرّض إلى نزوةٍ عابرة، ندم عليها، بحسّه الطفوليّ، ولمّا كان أبوه يعامله معاملة حسنة، ويدنيه منه، قرّر أن يعترف له بها، فما كان من الأب إلا الحكمة والتعقّل، أرشد ابنه العزيز إلى أنّ هذا السلوك شيْء سيّئ، وأنه يفتخر بابنه الذي ثاب إلى رشده، ثمّ فاجأه بعد أيّام بهديّة جميلة، كانت له الأثر الجميل في نفسه، عاهده بعدها ألّا يرجع إليها ما دام حيًّا.
ها نحن نقترب من الجامعة، بقي من الوقت القليل، يمكّنني من الالتحاق بالمحاضرة. أنزل من الحافلة، أهرول مسرعًا. أدخل الباب الرئيسيّ. أمشي محاذيًا مبنى المكتبة المقابل لمبنى رئاسة الجامعة. هناك تنتصب عدّة أشجارِ سرْوٍ عملاقة انتصابًا باسقًا، أصلها ثابت وفرعها في السّماء، كبرت على الاستقامة وشاخت عليها، لا تنحني للظروف أبدًا، تظلّ شامخة لا تؤثّر فيها الرياح ولا العواصف. نظرت إليها متأمّلًا، كيف استقامت جذوعها؟ وكيف استعصت على انحناءات الحياة؟ ألم تمرّ بها أحوال أخضعتها لها؟ ليتنا كنّا مثلها (!) أشجارًا مرتفعة، مستقيمة، لا ترى فيها عوجًا ولا أمْتًا (!).
بقيت ثلاثة دقائق على موعد المحاضرة، انجابت عنّي غشاوةً كانت تكتنفني، وستائر ثقيلة غليظة أزاحها عن قريرتي منظرُ هذه الأشجار المرتفعات بدلالاتها الواسعة، متسلّلة أشعّة الشمس الجميلة إلى أعمق نقطة في قلبي.
وصلتُ القاعة في مبنى كلية الآداب، فوجدت أنّ مدرّس المادّة لم يحضر بعْدُ، حيّيت الطلّاب تحيّة دافئة فبادلوني بتحيّة أدفأ، وجلست على مقعدي متبادلًا أطراف الحديث معهم، وعلامات البهجة بادية على محيّاي.