ثائر العذارى يؤكد أن الشغف بالعلم يجعلك أكثر قدرة على تحليل الأدب
( الجسرة )
حدثني أكثر من صديق عن أكاديمي وناقد عراقي يعيش بالإسكندرية ويريد أن يصبح عضوا في مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية الذي أديره، ثم جاء، حضر الندوة دون أن يعرفني بنفسه، بعد الندوة تحدث إليّ “أنا الدكتور ثائر العذارى” “أهلا أهلا بك فى الإسكندرية، سمعت عنك كثيرا وسعيد جدا لرؤيتك”.
عرفت أنه يدور على كل ندوات الإسكندرية، يتأكد من جدية الندوة قبل أن يقرر تقديم نفسه لمديرها والانخراط في نشاطها، سعدت به كثيرا، أكاديمى متمرس، وناقد ذواقة، وإنسان دمث الخلق، شديد الذكاء، خفيف الروح، سريع النكتة، ألقى أكثر من محاضرة، وشارك في أكثر من ندوة للمناقشة بالمختبر، ونال استحسان وإعجاب أعضاء المختبر وضيوفه على السواء، ونال محبتي العميقة، وصرنا أكثر من صديقين.
العام الذى أمضاه الدكتور ثائر العذارى بالإسكندرية مر خاطفا، مليئا بأحداث جسام، ثم فجاة سافر، عاد إلى العراق، وكنت أظنه سيبقى في الإسكندرية إلى الأبد، وكانت هذه إحدى أمنياته التي لم تتحقق.
قررت أكثر من مرة أن أسجل حواراتنا الدائمة، والكسل يغلبني، وهذا الحوار استغرق أشهرا ما بين كسلي وكسل د. ثائر، وظروف بلدي، وظروف سفره، لكنه كان أحد خيوط الوصل بيننا، خيوط وصل لن تنقطع إن شاء الله.
• الصبي الذى لم يحلم بالأدب أبدا، كيف أصبح ناقدا متخصصا في الأدب؟
ـ ربما يكون ما حصل لي شبيه بما حصل لأستاذتنا د. سهير القلماوي مع حفظ المقامات طبعا فلم أكن أتخيل في صباي أني سأختص بدراسة الأدب يوما ما، رغم أني كنت مولعا بحفظ الشعر وكتابة الخواطر، فقد كنت مأخوذا بحب التكنولوجيا حتى أني كنت أقوم بتجميع بعض الأجهزة يدويا، وما زلت أتذكر أني قمت بتصنيع راديو ترانزيستور على قطعة من الخشب ولم أكن قد بلغت الثانية عشرة بعد. وكنت غالبا ما أحصل على علامات كاملة في الرياضيات والفيزياء. وكنت من أوائل الذين امتلكوا جهاز كومبيوتر في العراق وتعلمت لغات البرمجة وتصميم الويب أوائل الثمانينيات.
غير أن إصابتي بضعف البصر منعتني من الانتساب إلى كلية الهندسة مثلا، وكان علي أن أختص بدراسة إنسانية فوجدت العربية أقربها إلي. وكما قال شيخنا طه حسين للقلماوي أنه سيقبلها في كلية الآداب لتشرح امرئ القيس وأبا تمام، وجدت في النقد ميدانا واسعا للتجريب العلمي الصرف وساحة بكرا لإعمال قوانين الرياضيات والفيزياء عليها. وأصبحت متعتي تشريح النصوص وكشف أسرار جمالها بالشعور نفسه الذي يمكن أن يشعر به طالب يضع شريحة تحت المجهر في مختبر لدراسة الكائنات الحية.
وخلال سني الدراسة كنت محظوظا بالتتلمذ على أيادي أساتيذ كبار بقامة الدكتور الراحل ناصر رشيد حلاوي، والدكتور علي عباس علوان، الذي كان له الدور الأبرز في تشكيل شخصيتي مع عدد من زملائي ممن يعدون اليوم من كبار النقاد في العراق.
تعلمت من د. علي عباس علوان أن النص الأدبي كيان لا نهاية لقراءاته وتأويلاته، وأن البحث عن التكنيك ودينامية البناء اللغوي هو عمل الناقد الأهم. وأن النقد علم لا يمكن تعلمه إلا بالتدريب على يد معلم.
*هناك طرق عديدة للتعاطي مع النص الأدبي، أيها تراه جديرا بهذا النص؟
ـ دعنا نتفق أولا على أن كل نص يمكن أن يدرس من زوايا نظر كثيرة، يمكن أن تدرسه في ضوء علم النفس أو الاجتماع أو الاقتصاد أو السياسة أو علم الأجناس البشرية وغير ذلك كثير، وكلها تضيء النص وتغنيه، غير أن كل هذه الزوايا تبقى دراسات منسوبة إلى العلم الذي استندت إليه، فهي دراسات نفسية أو اجتماعية أو اقتصادية …، ولا يمكن أن نعدها دراسات نقدية. لأن مجال النقد الوحيد هو التقنيات التي بني النص عليها بوصفه فنّا خامته اللغة.
لعلك تتذكر طبعا موجة النقد النفسي التي سادت في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. وتذكر عمل النويهي ومصطفى سويف وأمثالهما ممن تعلمنا منهم الكثير. كان عملا جميلا أن تحاول فهم النص من خلال مصطلحات فرويد. لكن ماذا بعد؟ ألا يمكن الكشف عن معطيات نفسية في أي نص؟ أدبي أو غير أدبي؟ عربي أو مترجم إلى العربية؟ ثم ألا يعني هذا أننا أهملنا البنية الجمالية الأساسية، البنية اللغوية التي قوامها العلاقات الدينامية داخل النص؟
ما زلت أرى أن المنهج البنيوي هو أفضل ما توصل إليه التنظير النقدي لأنه يزودنا بالأدوات التي تجعلنا قادرين على التعامل مع النص على أنه كينونة قائمة برأسها. فعندما يلزم الدارس نفسه بهذا المنهج يكون في مواجهة النص وحده. والنص هو العمل الفني الحقيقي، وكل شيء خارجه لا يرتبط به إلا بعلاقات واهية وغامضة ولا يمكن الجزم بها أبدا.
انظر إلى المناهج التي نسميها اليوم ما بعد البنيوية، ستجد أن معظمها نظري من الصعب تطبيقه، ومجرد الإشارة إليها بأنها (ما بعد البنيوية) يكفي لنعرف أن النقد بعد البنيوية لم يستطع إلى الآن الخروج من معطفها.
أنظر مثلا إلى نظريات القراءة والتلقي، بالنسبة لي عندي من الشجاعة ما يكفيني للقول إنها خدعة نقدية، ففي التنظير نواجه كلاما مقنعا ومنطقيا، وبمجرد محاولة التطبيق سنكتشف أننا أمام حركة رجعية، لأنها ليست سوى وجه آخر للمدرسة الانطباعية القديمة، فالناقد (القارئ) سيعالج النص من منطلقاته وفهمه هو، ولا يمكن بأي حال الحديث عن استجابة نموذجية للقراء.
وبالمناسبة، من الظلم أن تنسب هذه المدرسة لآيزر، ففي العشرينيات من القرن الماضي كتب آي أي ريتشاردز في “مبادئ النقد الأدبي” فصلين موسعين تحدث فيهما عن العمل الأدبي من زاوية نظر القارئ بطريقة لا تختلف عن تفسيرات آيزر. بل لقد وضح بشيء من التفصيل الفكرة القائلة بأن النص لا وجود له إلا بوجود القارئ وأنه، لهذا السبب، ليس نصا واحدا بل متعدد بتعدد القراء.
إلى يومنا هذا ندرّس طلبتنا في أقسام اللغة العربية، في مادة تسمى “النقد العربي القديم” مفهوما مغلوطا، هو قضية اللفظ والمعنى، ونقول لهم إن الجاحظ كان من أنصار تقديم اللفظ معتمدين على عبارته الشهيرة في “الحيوان”:
“المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، والبدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتمييز اللفظ وسهولته، وسهولة المخرج، وفي صحة الطبع، وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج، وجنس من التصوير”.
ولا أدري لماذا لا نلتفت إلى دقة الرجل وعمق فهمه لصناعة الأدب. فهو هنا لا يعني اللفظ من حيث كونه مفردات جزلة فصيحة، بل استخدم توصيفات دقيقة تدل بلغة اليوم على ما نسميه (الحرفنة) أو التكنيك. وانظر إلى فهمه للشعر على أنه صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير، فهو ليس إيحاء من عوالم ميتافيزيقية من شياطين أو جن بل حرفة تحتاج مهارة في نسج المفردات لصنع الصورة، وكلمة (التصوير) عندهم كانت تعني الرسم، هنا يكاد الجاحظ أن يكون بنيويا قبل ليفي شتراوس.
ولكن ضغوطا ثقافية كثيرة كبحت هذا الاتجاه في التفكير ولم تسمح له بالتطور، لعل أهمها الخلط غير المنطقي بين الديني والنقدي، وبين المقدس وغير المقدس، الذي أضفى على مذاهب القدماء اللغوية كساء من القداسة. وجعل معارضة آرائهم تبدو ضربا من الكفر.
• لماذا لا يوجد لدينا نظرية نقدية عربية حاليا؟
ـ بالطبع لا أحد يستطيع الادعاء أن هناك نظرية نقدية عربية اليوم، بل أننا نعيش في فوضى نقدية عارمة ومضحكة أحيانا، وثمة أطنان من كتب النقد التي طبعت في السنين الأخيرة لن تخرج منها بشيء إذا قرأتها سوى ضياع وقتك وتشتيت أفكارك في فوضى المصطلح المضطرب، واللغة الملوية الأعناق. ولكن من حقنا أن نتساءل عن السبب الذي أدى بنا إلى هذا الواقع النقدي المأساوي.
من الشائع الآن أن يقال إن سبب الفوضى النقدية هو أننا أمة لا تمتلك فلسفة تكون حاضنة تترعرع فيها الأفكار والنظريات، والقائلون بذلك يستدلون عليه بقراءة تناسل النظريات النقدية الغربية في رحم المنظومة الفلسفية ابتداء من أرسطو وانتهاء بآدم سميث.
ولا أرى هذا التعليل واقعيا، فإذا كانت الفلسفة – كما أفهمها – هي الرؤية الكونية التي تقدم تفسيرا للظواهر وتحاول الوصول إلى جوهرها، فمن الظلم أن ننكر على أنفسنا امتلاكنا الفلسفة، فقد ترسخت المفاهيم الفلسفية التي بنيت على العقائد الدينية في أعمق بنى الثقافة العربية. ومن يعلل الأمر بالافتقار للفلسفة لن يستطيع أن يعلل تطور الأدب تطورا منطقيا عبر تاريخه العربي دون توقف بالتزامن مع ارتباك النقد وتأخره عن اللحاق بمسيرة النص الأدبي. أليس النص الأدبي هو الآخر جنينا يترعرع في رحم الفلسفة؟
أما تفسيري للأمر فهو أن أكثر من ألف سنة من عمر الدولة العربية الإسلامية رسخت في الوعي العربي منظومة معرفية مبنية على أن هذه دولة الله والإسلام، وأن لا علاقة بين جور الحكام وكينونة الدولة التي لا يمكن أن يهزمها أعداؤها، لأن هزيمتها تعني هزيمة الإسلام. وعند اشتعال الحرب العالمية الأولى انهارت تلك الدولة في أيام معدودات وانهارت معها تلك المنظومة الثقافية التي اتضح زيفها، من غير أن تكون هناك ثقافة أخرى بديلة تحت اليد. ولأن (المغلوب يقلد الغالب دائما) كما يقول ابن خلدون، انبهر العربي بهذه القوة التي هزمته، فراح يغوص في ثقافتها محاولا التشبه بها.
إن أبسط بحث ابستمولوجي للتطور المعرفي منذ الحرب الأولى إلى الآن سيوضح أن كل ما حدث في الثقافة العربية لم يكن إلا سلسلة من التجارب للبحث عن المنظومة المعرفية البديلة، وهذا أدى إلى ظهور خليط غير مفهوم من الاتجاهات المعرفية، كأن تجد ماركسيا متدينا أو تاجرا كبيرا يحدثك عن مزايا الاشتراكية وهكذا.
أنا أشبه هذه الحالة بميكانيكي يحاول تفكيك آلة ظلت تعمل لمدة طويلة، فهو يجرب أداة لفك مساميرها وصواميلها فإذا لم ينجح رماها والتقط أداة أخرى، وأحيانا يؤدي سوء استعمال الأداة إلى تشويه الصواميل. وهذا ما حدث مثلا أبان الخمسينيات، عندما كانت الأداة الملتقطة هي الواقعية الإشتراكية، فكان الناقد يتحدث عن الثورة الراديكالية وينطق باسم الطبقات (الكادحة) ويشن الحرب على (المستغلين)، فأعطته هذه المصطلحات سلطة (أخلاقية)، أجبرت النص الأدبي أن ينحرف عن مساره الطبيعي لنجد أنفسنا أمام كم كبير من النصوص التي لا تعدو في أفضل الأحوال أن تكون تقارير اجتماعية أو سياسية لا علاقة لها بفنون اللغة.
• لك رأى مهم فيما يخص سلطة النص على الدارسين العرب اليوم؟
ـ إن واحدا من أخطر المظاهر في ثقافتنا هو (سلطة النص) الغاشمة التي تمنعنا في كثير من الأحيان من إعمال الفكر والتأمل. فالقاعدة الفقهية القائلة “لا اجتهاد في مورد النص” تعدت حدود الفقه لتفرض نفسها على حقول الثقافة كلها. فما أن تصبح مقولة لأحد الشيوخ قديمة حتى تكتسب القداسة وتكون أمرا مفعولا.
أليس من المضحك أن ندرس أبناءنا اليوم النحو والبلاغة والعروض كما كان يدرسها أجدادهم قبل ألف سنة؟ إنها سلطة نص سيبويه والسكاكي والخليل المقدسة التي لا يمكن الخروج من ربقتها. حتى قالوا مثلا “النحو علم نضج واحترق”.
وكانت ردة فعل الحداثيين (مساوية في المقدار معاكسة في الاتجاه)، فبدلا من أن يتحرروا من هذه السلطة اختاروا أن يضعوا أنفسهم تحت السلطة المضادة. فعبارات مثل (قال تشومسكي وقال بارت وقال تودوروف) تكتسي بذات القداسة التي تكتسي بها عبارات المحافظين (قال سيبويه وقال الجاحظ وقال الجرجاني).
أمس كنت أتحدث مع طالبة ماجستير أردنية. قالت إنها فهمت فكرة زاوية النظر من أربعة أسطر في مقالة قديمة لي أكثر مما فهمته من الكتب، وعندما حاولت وضع الفقرة في بحثها طلب منها مشرفها وهو أستاذ فاضل أن تضع مقولات الغربيين أولا وتؤخر تلك الفقرة بعدهم. ببساطة لأنه يخضع لسلطة نصوصهم.
• يحتاج الناقد إلى كثير من الأدوات، ما أهمها فيما ترى؟
ـ كما في كل حقل علمي، لا يمكن لأي إنسان أن يكون ناقدا إلا إذا توفر على مقومات ذاتية وموضوعية، فأما الذاتية فهي استعداد خلقي يتمثل بالقدرة على الرصد ودقة الملاحظة واكتشاف العلاقات التي لا يستطيع غيره كشفها. وأما الموضوعية فهي الاطلاع على مختلف المعارف بحيث تكون القراءة المستمرة طقسا يوميا لا يتنازل عنه.
وأهم تلك المعارف الأسطورة والفلسفة اللذان يتغلغلان في تكوين النصوص حتى لو لم يكن الكاتب قد قصد ذلك. لأن أساطير الفراعنة والعراقيين واليونان، وفلسفات كونفشيوس وأرسطو قد تغلغلت حتى في الثقافة الشعبية. أنظر كيف تحولت أسطورة بجماليون إلى مسرحية برنارد شو سيدتي الجميلة. وكيف تحول سيزيف إلى سانتياغو في الشيخ والبحر. وكيف أنتج دوستويفسكي سوبرمانه راسكولنيكوف بالتزامن مع معاصره نيتشه، وكيف دفعت الوجودية نجيب محفوظ إلى خلق لصه سعيد مهران. حين نكون عارفين بتلك الموارد سنصل إلى فهم أكثر دقة للبناء الفني للنص، لأننا سنبحث في كيفية تجسد تلك الأفكار في كيان لغوي.
المصدر: ميدل ايست اونلاين