الروائي السوري ممدوح عزام: الثقافة تعرضت لخضّة كشفت هشاشتها

ليلاس سويدان
عض الروائيين السوريين كتبوا من الداخل أو من بلاد اللجوء أو المنافي عن الثورة السورية، أو المحنة الكبرى بالنسبة لوطنهم، والامتحان الكبير بالنسبة لأدب في زمن تداخلت فيه أدوار المثقف بالسياسي، والصراع السياسي العنيف مع صراع الهويات الدينية والقومية، والاختلاف على المصطلحات وتسميات الحدث، وربما الروائي السوري ممدوح عزام من الروائيين السوريين القلة الذين لم يكتبوا روايات عن زمن الثورة، وإن كان قد كتب العديد من المقالات الصحافية بشأنها. حول الرواية السورية وإمكانية ترميم الثقافة العاجزة، كما وصفها، والنقد وأمور أخرى كان لنا معه بشأنها هذا الحوار.
◗ كيف يمكن ترميم انهيار واهتراء الثقافة العاجزة، كما وصفتها في حوار لك؟، وهل نحن بحاجة لإعادة تعريف الثقافة ودورالمثقف؟، وأي دور تتصور أن يكون له ولكلمته وسط هذا الصراع والدم؟
ـ أعتقد أن الثقافة العربية تعرضت في الآونة الأخيرة لخضّة عميقة كشفت هشاشتها، وضعفها، ولا مبدئيتها العاجزة. أما الآونة الأخيرة فهي السنوات الخمس التي شهدت النهوض الثوري العربي الذي حملت لواءه الطبقات والفئات الفقيرة والمتوسطة من المجتمع، في مباغتة غير محسوبة البتة من قبل المثقف العربي. لا تعترف الثقافة العربية حتى الآن بهذا الواقع، في مكابرة إنكارية فريدة، وبدل ذلك ينحاز عدد من «الرموز» الثقافية إلى القوى المناهضة للثورات العربية. من كان يتخيل أن يقف أدونيس والغيطاني مثلا ضد ثورة السوريين المقهورين؟. يخيل لي أحيانا أن في هذا الأمر جانبا شخصيا، نرجسيا، يميل بالمثقف للانتقام من الحشود التي خذلت افتراضاته، وصوره المتوترة عن المجتمع المقموع، وفاجأته بدل ذلك بصور إبداعية خارقة لم تخطر له على بال من قبل. سواء في التظاهر المدني اللائق، أو في الشعارات التي طالبت فيها بحقها في الحرية والكرامة ولقمة العيش الشريفة. مضت تلك الأيام، وقد ساعدت أسماء عربية مثقفة عديدة في وأد الحراك الشعبي، وكالت له تهما مدمرة، كالتخلف، والهمجية، ومعاداة فلسطين، والخيانة، والتطرف. وساند العشرات منهم الأنظمة الحاكمة بلا حياء، وانبرى عدد مهم يدافع عن تدمير المدن، وقتل المدنيين، بذريعة الحرب على الإرهاب. كيف يمكن ترميم هذه الثقافة؟، لا يمكن للمثقف أن يكون فاعلا في المجتمع إذا ظل ينظر إلى نفسه كتابع، أو ملحق بالسياسي، فكلا الحقلين لا يتشابهان في الممارسة العملية، ففيما تميل السياسة إلى التكتيكي، واليومي، والمداهن، والبراغماتية، واللحاق بالمصالح الآنية، تتصف الثقافة (كما يفترض) بالاستقامة والنزاهة الأخلاقية، ورفض المساومات.
سؤال وجودي
◗ كتابة التاريخ أو توثيق الحدث وربما اليوميات السورية، هل هي برأيك ما يجب أن يكون هواجس الرواية السورية الآن؟
ـ يعرف معظم الروائيين السوريين هذه الورطة اليوم؛ أي ورطة عدم القدرة على الخروج من اليومي الداهم، والمريع، والتدميري، والقاتل. وسواء كان الكاتب- وهو إنسان ومواطن وأب وأخ وزوج ابن قبل أن يكون كاتبا- يعيش في الداخل السوري، كما هو حالي، وحال العديد من الروائيين السوريين، أو اضطر للخروج من البلاد لأسباب شتى، فإن الهاجس اليومي يخيم، أو يهيمن على كل التفكير أو التخييل الأدبي. ولذلك ليس ما يحدث من توثيق يومي أو حدثي، أمر واجب، بل هو معاش، ومشاهد، ومجرب، بحيث يضع الروائي مرغما أمام المشاهد: هل سيكتب عما يرى، ويعيش، ويجرب، ويعاني، أم لا؟. هل يمكن ألا يكتب عما يرى، إذا أراد الكتابة؟. ولهذا فإن الكاتب سيكون هنا أمام سؤال وجودي من نوع: أكتب أو لا أكتب، واختيار الكتابة اليوم يعني اختيار الحدث، وهنا سيفترق هذا الروائي عن ذاك الآخر، ستكون الزاوية مهمة جوهرية في إظهار الموقف، والرؤية، وأدوات الكتابة. وهو ما يمكن أن يقوده إلى التوثيق. ولم لا؟. هل يمكن أن يسمح المرء لكل هذا الدمار العجيب أن يمضي من دون أن يسجل؟
نظريات أم قيود؟
◗ تحدثت عن معايير «الأيزو» النقدية كما أسميتها، للرواية العربية، وخفوت صوت النقد مقابل نهوض الرواية.. هذه المعادلة غير المتوازنة كيف تفسرها، ومعايير «الأيزو» تلك هل هي مؤشر على تسليع الأدب أم سطحية النقد؟ أم شيء آخر؟
ـ المتابع للنقد الأدبي العربي سيلاحظ فورة في التنظير، تطغى بشكل شبه كلي على التطبيق. والمريع في الأمر هو أنها فورة في النقل الذي يستعير من النظريات النقدية في العالم، من دون أن يتمكن، أو يبذل جهدا في تحويل تلك النظريات إلى ممارسة نقدية تحاول أن ترى الرواية العربية على ضوء الثقافة النقدية المعنية.
وبالعكس، تتحول المعايير النقدية التي تتسم في الأصل بالمرونة الكافية القادرة على منح الناقد، في الثقافة الأخرى، حرية الحركة في التعامل مع النصوص الروائية، إلى مقولات جامدة، في النقد العربي. ويتحول الناقد العربي إلى متعجرف نرجسي يطأطئ أمام الغريب، القادم، ويتعالى على المحلي، محولا تلك النظريات إلى قيود، وأغلال فكرية، تسجل فيها على الروائي العربي المخالفات، وتوزع عليه الأوامر والنواهي والتوصيات الأبوية. والمفارقة هي أن «المخالفات» المماثلة في أي رواية غير عربية، يمكن أن تحسب «تجديدا». سرعان ما يصبح معيارا للمحاسبة الجامدة والقاسية في مواجهة الروائي العربي. والأمر هو في تقديري تملص من المسؤولية، أو رغبة بطريركية في السيطرة، عبر بلاغة نظرية جوفاء تعرقل الإبداع، أو تحجر عليه، أو تسعى لتعليبه في النظريات المسروقة، المصحوبة بغبطة المعلم الذي يلقي النصائح، والتعليمات، لجيل منكوب من روائيين لم يقرؤوا البنيوية، أو هارولد بلوم، أو جوليا كريستيفا، حيث يصبح النقد لا التجربة الروائية، هو الموجه. وهو موجه يتسم بالصلافة من جهة، وبالامتناع عن قراءة النتاج العربي من جهة أخرى.
الجوائز الأدبية
◗ لك رأي في الجوائز الأدبية وفي كونها سببا لإفساد فن الكتابة وتخريب القراءة أيضا، ولكن البعض يرى أنه لولا الجوائز لما راجت الروايات وأن الجوائز تعويض عن فشل دور النشر في «تسويق» الأدب والأدباء. تعليقك؟
ـ أنا ممن يؤمنون أنه ليس بوسع الشعوب والأمم أن تنجب شاعرا مميزا، أو روائيا ممتازا، أو مسرحيا من الطينة ذاتها كل عام. لم يحدث مثل هذا لدى أي شعب، وفي الغالب فإن الأمم تحتفل بأعداد ضئيلة من الأسماء اللامعة. والمشكلة في تسويق الجائزة العربية أنها تضع الفائز، أو الفائزين ـ بالجوائز في الصفوف الأولى من الإبداع الروائي. هذا غير صحيح البتة، ومن فازوا بالبوكر أو بغيرها، هم كتاب جيدون حتى الآن. ومن الغبن أن تتصدر أسماؤهم لوائح الروائيين العرب. هذا هو الجانب الذي يمكن أن يكون غشا في القراءة، يتسبب في تخريب الذائقة لدى القراء الذين تجذبهم الميديا التي تحول الروائي إلى نجم. لا علاقة لكل ما يجري في حفلات التنصيب، بفن الرواية. ولا معنى للرواج الروائي، أو لا قيمة له في التأسيس لهذا الفن، الرواية، أو تجديد قضاياه. وقد يخشى المرء على المشاركين أن يكون ثمن العجلة باهظا على التزامهم تجاه الأدب، وعلى النوع الأدبي، أي على القيمة الباقية من فنهم ذاته. بمعنى أن تشكل أعمالهم إضافات لهذا الفن، لا على الصعيد العربي وحده، وهو الواجب الأول الملقى على عاتق الروائي، بل للمشاركة في تجديد الفن الروائي على الصعيد العالمي.
الكتابة.. مسافة «ما»
◗ ما الذي ستكتبه في رواية لك عن الثورة السورية؟ وهل ستكتب قريبا أم تنتظر أن يهدأ الحدث ويسكن المشهد قليلا؟
ـ لا يمكنني استباق الكتابة، فيما إذا كنت استعد للبدء في رواية ما، والقول انني سأكتب هذا، أو ذاك من جوانب القول، أو البناء. كما لا يمكنني التصريح بما أكتب، بسبب وجود النص في حالة التشكل. كل ما في وسعي قوله هو انني أعمل على الكتابة طوال الوقت، وأن الأحداث الجارية تزيد من صعوبة الكتابة ووعورتها. والحال هو أن الرواية تتطلب بالفعل القدرة على خلق مسافة ما، قد لا تكون بالضرورة، مسافة زمنية تحسب بالأشهر أو بالسنوات، وإنما هي مسافة «ما» يجب أن ينفصل فيها الروائي عن تحيزاته الفكرية، أو السياسية كي يتمكن من منح الشخصيات، بمن فيها تلك التي قد يعاديها في الحياة الواقعية، الحق في الحضور المكتمل كبشر لهم أفكارهم وضمائرهم وخياراتهم.
(القبس الالكتروني)