«مقهى صغير لأرامل ماركس» … شعرية الإحالة والتخييل

يسري عبد الله
بعد دواوينه الاربعة («ليلة 30 فبراير: قصائد منسوخة»، «عبور سحابة بين مدينتين»، «يعمل منادياً للأرواح»، «حصيلتي اليوم قُبلة») يأتي الديوان الخامس للشاعر المصري أشرف يوسف «مقهى صغير لأرامل ماركس» (العين وشرقيات)، حاملاً عنواناً إشارياً على تاريخ من الأيديولوجيا، التي تتم مجاوزتها هنا عبر الدلالة البارزة التي تحملها صيغة الإضافة الماثلة في «أرامل ماركس»، وبما يعني أيضاً أننا أمام عنوان مخاتل يحيل في جوهره إلى جملة من الممارسات الحياتية لبشر غارقين في فخ الحياة/ فخ الذاكرة.
وعبر تصدير دال يحيل فيه الشاعر إلى رواية «عصر الحب» لنجيب محفوظ، وإلى فكرة الراوي الذي يعد خلقاً متخيلاً من قبل الكاتب، وتعبيراً عن خليط من الأصوات المختلفة، ينطلق أشرف يوسف في ديوانه، الذي يعد أقرب إلى متتالية شعرية، يستعير فيها من السرد عناصر التتابع، والدرامية، والتدفق الحكائي، ليتشكل المتن الشعري من سبعة عشر قسماً. ينهض الديوان على جدل الاتصال/ الانفصال بين نصوصه المختلفة، فثمة صوت مركزي لامرأة تنشد الحرية بأقصى ما تستطيع، تبصق على العالم، مأزومة ومهزومة في آن، جسور وخائفة معاً، تبحث عن عالم يمنحها حريتها المستلبة، ويدفعها صوب تمردٍ لا ينتهي. غير أن هذا الصوت سرعان ما يتشظى في النص، ليكشف عن حالات/ تبدلات/ أصوات مختلفة، كامنة في جوهره، وحاضرة في بنية الديوان. في «أصوات النساء»؛ توجه الذات الساردة خطابها إلى مروي له محدد «مؤلف الكتب»، وتصفه بالغرور، في مقطع يتواتر حضوره بصيغ متعددة داخل الديوان، ثم نرى استخداماً دالاً لآلية الإنشاء البلاغي، وتفعيلاً للمجاز في القصيدة: «وتعال ندخن كمؤلفي خواطر/ وسأعبيء روحك الميتة بالخيال/ هل تعرف كيف تكون لنفسك ابناً/ وأباً وأماً في خيطٍ واحد/ إنني النقصان الذي يرعاك في الليل/ ويرسل لك ابتسامة بين شفتين لجمعٍ من البلهاء/ تعال يا مؤلف الكتب/ تعال لو سمحت» (ص 12).
وقد تسائل هذه المرأة العالم، راغبةً في الرقص على جثته أيضاً، كما في «أعملُ ليلاً»، أو تشكل مدارها الخاص عبر «رغاوٍ طائرة بين كفين بضتين»، في «مونولوغ الزخارف»، وفي كلٍ، فثمة امرأة تبحث عن خلاص في مقهى صغير أسمته «أرامل ماركس»، تتوسل نبوءة قارئ كفٍ، ثم لا تعبأ بها، فهي مشغولة بالسؤال، بعد أن انتهكها العالم، وأحالها إلى ظل ضائع، تقسو عليها الدنيا بأكثر مما تحتمل: «ثمة قارئ كفٍ صادَفَني الليلة/ في مقهى صغير سميتُه أرامل ماركس، ولم يبن لي إلا عالماً من وهم/ بين تلك الخطوط المتشابكة/ لباطن إحدى يدي ممسكاً إياها برفقٍ/ كأنها موجة/ ويا لغبائه لم تستقر معلقة نصب عينيه/ والعدسة المكبرة القارئة للخطوط سوى ثوان/ وألقاها في الهواء كالحصاة/ التي تشوطها قدمُ شابةٍ في الطريق» (ص 23).
في «قدم عرجاء لم تكن سواك أنت»؛ ثمة تدفق شعري وأخيلة مدهشة، ومرارات تسكن الروح؛ «لو علمت أنني بعت أياماً موحشة/ غبت فيها عن عيني/ لعابرين كنت أجري أمامهم/ في الحلم/ في اليقظة/ لخوفي من وجوه الثعابين/ التي ستلدغني في قدمٍ عرجاء/ لم تكن سوى أنتَ/ عندما تكاثروا حولي وهددوني/ بقطعها» (ص 29/ 30). يتعدد التناص ويتنوع، بدءاً من التناص الشعري، حيث الإحالة إلى نصوص مختلفة لشعراء قدامى مثل الشنفري الأزدي، أو شعراء معاصرين مثل أسامة الدناصوري، أو حين يحيل الشاعر إلى فلاسفة أو نقاد ومفكرين أو شعراء عالميين، على نحو الإشارة إلى برتراند راسل، وإدوارد سعيد، وشارل بودلير، وغيرهم. أو حين يشير إلى روائيين مثل تولستوي وإلياس خوري. ويبدو تضفير المعرفي في متن الجمالي آلية ينهض عليها النص، على نحو ما نرى في قصيدة «أوج النبتة الشريفة»، حيث الاستهلال الشعري الذي يحيل إلى رواية جورج أورويل «1984»، ثم استنفاد إمكانات التخييل الممكنة، والانطلاق إلى أفق وسيع. هذا المنحى يتواتر في الديوان، ونراه ماثلاً أيضاً حين الإحالة إلى سيرة إدوارد سعيد «خارج المكان»، والتي تصبح الإشارة إليها بمثابة البنية الدالة القادرة على تأدية وظيفة داخل المسار الجمالي للنصوص. وتتجادل مع تلك الإحالات قدرة شفيفة على أنسنة المعطى اليومي، السياسي والحياتي، والخروج منه دوماً صوب الفني والتخييلي: «مضت أعوام/ ونحن راكضات بين بيوت من الطين/ في انتظار وصول إلى أرض الشمس/ حتى يعود التراب وحيداً بلا مياه/ من دون خلق ورفيق/ ونرى ماذا نحن فاعلات بلا قواعد/ وكأننا خرجنا من حلم لندخل آخر/ نحن بنات المصادفات والحظ العسر». (ص 419). ثمة نزوع إيروتيكي في الديوان، يحضر بوصفه معطى حياتياً وجمالياً في آن، ويسهم في تنويع الأداءات اللغوية المتعددة داخل القصائد، ويبدو انحيازاً إلى الحياة في مواجهة الموت الذي يتسرب شفيفاً إلى بعض المقاطع. غير أن الانشغال باليومي والمعيش، وبمساءلة العالم، والتنكيل به، وبجدل الغياب والحضور، وبمحبة العدم ومقاومته، يجعلنا أمام فضاء شعري يرتكن إلى النسبي، ويسعى صوب خلخلة القناعات السائدة، ومجابهة المستقر. ولذا يفكك هذا النص العابر للأيديولوجيا على رغم انطلاقه منها، الأشياء والعالم ليعيد صوغهما من دون اعتقاد في امتلاك هذا الوعي الرسولي، بل ثمة رغبة عارمة في كسر الثابت والمألوف.
في «مديح مقهى صغير لأرامل ماركس» نساء مقموعات، وعذابات إنسانية لا تنتهي، وأشواق جارفة، وحياة تسكنها صراعات تتمدد، وبشر على حافة الفعل/ حافة الحياة، يأتي ديوان أشرف يوسف معنياً باستكشاف مساحات مسكوت عنها في النفس البشرية، وولع دال بالإروسية، واستثمار لإمكانات الصوت الشعري المتعدد، عبر خلق أصوات موازية ومتقاطعة، تجعلنا أمام نص بوليفوني بامتياز، جدارته في قدرته على البوح بألسنة مختلفة، فضلاً عن جسارة حقيقية؛ هي في جوهرها ابنة الشعر، ابنة الحياة.
(الحياة)