تمثال أولاد أحمد يُثير حرب النَحَّاتين في تونس

عبد الدائم السلامي

الذين تعرّفوا على الشاعر الراحل أولاد أحمد في الحياة أو في نصوصه أو في مقالاته الصحافية – ومنهم قراء صحيفة «القدس العربي» التي نشر فيها مقالاته – يدركون أنه كان دوما مع الحق في العالَم وليس مع الحقيقة السائدة فيه، حيث عاش متمرِّدًا على كلّ الأنظمة السياسية والذوقية والفنية والاجتماعية تمرُّدَ العارفِ بإكراهاتها للفكر وبمناوراتها الدائبة للسيطرة عليه.
وكان يكرّر دوما في أحاديثه بأنه غامر بجسده من أجل الحرية بوصفها أرقى مراقي القِيَم الإنسانية، فخاض به حروب الشارع، وحروب الجوع، وحروب الكتابة، بل إنّ في نصوصه ما يُنبئُ بأنه كان يرى في جسده إضافة نوعيّة إلى الكون، فالجسد عنده حَرْفٌ لكتابة الحياة. ويبدو أن جسدَ شاعرٍ يُجيد تعكير «مزاج الفهم العام» مثل أولاد أحمد سيظلّ يشغل الناس حتى بعد مواراته التراب، وصورة ذلك ما أثير من جدل حول منحوتة (أو تنصيبة) له أنجزتها الفنانة التونسية صديقة كسكاس بدعم من وزارة الثقافة التونسية وتمّ تدشينها في حديقة المركز الثقافي في الحمامات (دار سيباستيان) خلال الاحتفال بعيد المرأة يوم 13 آب/أغسطس، إذْ أعلن كثير من المثقّفين والنحّاتين التونسيّين عن رفضهم لهذه المنحوتة لكونهم يرون فيها عملا متسرِّعا لم يبلغ مستوى فنيا يليق بشاعر «أحبّ البلاد كما لم يُحبّ البلاد أحد»، بل قالوا إنها أساءت لصورته التي يعرفها عنه الناس، وأنّ في إنجازها فسادا ماليا على حدّ ما جاء في بيان اتحاد الفنانين التشكيليّين التونسيّين الذي طالب فيه «بفتح تحقيق جريء وعاجل من طرف وزارة الثقافة ووزارة الوظيفة العمومية والحوكمة ومكافحة الفساد حول الإجراءات التي تم اتباعها من طرف المدير العام للمركز الثقافي الدولي بالحمامات عند إبرام هذه الصفقة مع السيدة صديقة كسكاس ومدى تورط موظفين آخرين في استغلال صفتهم لتحقيق فائدة، من دون وجه حق لنفسه أو لغيره، غايته توضيح مدى ضمان عدالة هذه الآليات في ضمان حق المشاركة والتناظر لكافة الفنانين التونسيين في هذا المشروع، وتركيبة اللجان الفنية والتقنية المختصة التي أشرفت على كل مراحله». وفي هذا الشأن صرّحت زهور بن عزيزة أرملة أولاد أحمد لـ»القدس العربي» بقولها: «أعجبتني فكرة إنجاز منحوتة لأولاد أحمد، ولكن المنحوتة لم تعجبني، ولم أرها إلا لحظة تدشينها، حيث أعلمتني الفنانة صديقة كسكاس بمشروع المنحوتة قبل أربعة أيام من التدشين وأرتني تصميمًا لها على الورق (وكانت قبّعة الشاعر تظهر في التصميم ولم أرها في المنحوتة). يبدو أن الفنانة لم تصب في المنحوتة غير أنها نجحت في إنجاز السجادة الشعرية التي يقف عليها التمثال. ولئن كنتُ لا أخفي مدى عشق هذه الفنانة لنصوص الشاعر واعتزازها بثوريته، فإنني أراها قد تسرّعت في إنجاز فكرتها. وبقدر ما أشكر أصدقاء أولاد أحمد على غيرتهم على مكانته الرمزية وأثمّن فيهم حرصهم على ردّ الاعتبار له، لن أطالب أبدا بإزالة هذه المنحوتة، لأنها فكرة شخصية لفنانة، وهي حرّة فيها، ثمّ إنّ مثل هذه المطالبة قد تؤسّس لعادة سيّئة في تلقّي الإبداع الفني والفكري التونسي، حيث سيصير بإمكان أيّ واحد أن يعترض على قصيدة أو كتاب أو أغنية، وبذلك يتمّ التضييق على كلّ حرياتنا الإبداعية».
أما الباحث والفنان التشكيلي برهان بن عريبية فقد قدّم مجموعة من الهَنات الفنية التي جعلت محاولة تكريم الشاعر الصغيّر أولاد أحمد بهذه المنحوتة لا ترقى إلى مستوى الإعجاب على حدّ قوله، وأضاف شارحا ذلك: «أولا غياب الوحدة الأسلوبيّة؛ فالرأس تشخيصي لم يحترم المقاييس والنسب، يمكن ملاحظة مستوى الأذن بالنسبة للعينين وعدم التطابق مع ملامح الوجه. والجسد مبسّط مع اعوجاج غير مبرَّر على مستوى اليدين والساقين بمعنى أن المحاولة التأويليّة لا تستجيب لجماليات الحداثة الفنيّة ولا وجود لشَبَهٍ أسلوبي مع أعمال جياكوماتي. السجادة التي كتب عليها الشعر منقوشا غير مندمجة مع المنحوتة، ولم أجد تفسيرا لذلك الشكل المحفور الشبيه بشكل حشرة أو قبر مفتوح. ثانيا جنس العمل الفنّي غير واضح؛ حيث تلاعبت الفنانة بالمصطلحات فتارة هي منحوتة وفي تصريحات أخرى هي تنصيبة، وإذا صدقنا الأولى فنحن في سياق حداثي يتوجّب علاقات متناسقة بين أحجام معلومة وتوظيفا للفراغ والكتل، وإذا اعتبرناها تنصيبة فلا نجد علاقة مع المكان أو مبدأ تفكك عناصر العمل الفنّي الشكلي وارتباطها الدلالي، إن تسمية العمل تنصيبة يعتبر تعدّيا صارخا على فكر ما بعد الحداثة وعلى موجة المعاصرة الجديدة في تونس. ثالثا الشكل والرمزيّة؛ إن تكريم فنّان من خلال عمل فنّي نحتي أمر دقيق حيث يتطلب منه دراسة رمزيّة للعناصر والتفاصيل المستخدمة في العمل، تجسد الفنانة الشاعر بفم مفتوح وكأنه ميّت، تجسّده واقفا هامدا بدون حراك، يداه ملتصقتان بجسده بلا حراك، فهل هذه سمات الشّاعر الصغيّر أولاد احمد، الجسد كان عاريا في قسمه العلوي لابسا سروالا في قسمه السفلي فهل لنا أن نتمعّن في معاني تعرية الشاعر من ملابسه وهو يقف أمام مجسم لقبره». وما نميل إليه في هذا الأمر هو قولنا إنّ الفنّ- وكذا الأدب والمسرح وغيرهما من مجالات الإبداع- ليس مطالَبا بنقل الحقيقة بمفهومها الواقعيّ وإنما من واجبه أن يُقنِعَ المتلقي بـ»حَقيقيّة» مَا يقدِّمُ له في الحياة وإنْ كان صناعةَ خيالٍ. لأنّ المحاكاة (Mimesis) بمفهومها الأفلاطوني الذي يقف بها عند معنى «نسخة عن نسخة عن أصلٍ»، لم تعد تجد لها مَحلاّ في الفنون الحديثة ولا حتى مُبرِّرًا. ثم هل من وظيفة الفنان أن يُحاكي الواقع؟ وما جدوى أن يصنع منه نسخة طبق الأصل؟ لا يمكن لفنان أن يُحاكي الواقع أبدًا، لأن ما يصنعه ليس نسخةً من الواقع وشبيهًا له وإنّما هو –إذا استأنسنا بتطوير أرسطو لمفهوم المحاكاة- يتّكئ على تمثّله للواقع ليخلق واقعا جديدا ممكنا، أي يصنع جسدا فنيا جديدا. وهذا الواقع الجديد الممكن يختلف بالضرورة عن الواقع الخام، ولا ينطبق عليه مفهومُ «عودة الشيء ذاته» الذي رفضه جاك لاكان في تعريفه للتكرار، إنه خَلْقٌ جديدٌ أكثر غِنًى من العناصر التي تُكوِّنُ نظامه الداخليّ، إنه الفنان حين يُذيب صورة الخارج، وهي هنا صورة أولاد أحمد، مع مُتخيَّله له، ويَحُلُّ نَتَاجَهما بجسدٍ واحدٍ؛ جسدٍ فنّي يظل دوما أكبر من بنيته ومن شكله ومن تأويل الناس له.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى