الرواية العربية والقلق من الإرهاب والتطرف

د.ابراهيم خليل

لا ريب في أن الإرهاب قديم ومتنوع، فمنه إرهاب الدولة، وإرهاب العصابات التي لا علاقة لها بالجماعات الجهادية. وقد وردت إشارات للإرهاب عرضا في بعض الروايات العربية، من ذلك رواية واسيني الأعرج «ذاكرة الماء» (1997) التي جاء فيها على لسان إحدى الشخصيات، أن الإرهاب لم يدع واحدا آمنا في بيته، أو في عمله «صار القتلة يستكثرون فينا حتى الرصاصة، بكل بساطة نذبح كالخراف أمام أولادنا. وقتلنا يرضي كل الذين يريدوننا أن نصمت. عبد الرحمن جار أمي ذبح قبل يومين على مرأى ومسمع من الناس، على بعد عشرين مترا من مركز الأمن. سمعت أمي صرخته الجافة، فأطلت من النافذة، رأته – أي الإرهابي- يقبض على عنقه، وهو يدافع عن نفسه بالصحف التي كانت في يده اليمنى. صرختْ بأعلى صوتها، أغلق الناس نوافذهم، وأغمضوا أعينهم، شتمت كل سكان المدينة. وفي النهاية نزلت، وفي يدها إزار أبيض، كان قد فرغ دمه ومات. غطته بالإزار في اللحظة التي وصلت فيها الشرطة».
وقد جاء في رواية «سيقان ملتوية» لزينب حفني (2007) أنَّ عادلا، وهو أحد شخصيات الرواية، عراقي، عاش معظم سنوات عمره في المنفى، عندما عاد إلى بغداد بعد الاحتلال الأمريكي قضى نحبه في انفجار سيارة مفخخة. تقول الساردة «سمعت بعد سفره لبغداد أن جسده تطاير أشلاءً نتيجة تفجير سيارة مفخخة على مقربة منه».
وتضمنت رواية عواد علي «حماقة ماركيز» (2013) إشارة لحادث إرهابي أودى بكل من هاشم، وسلمان البدر إلى المشفى. أما ما تلح عليه رواية «رغيات ذاك الخريف» لليلى الأطرش فهو كيفية تكوّن الإرهابي، فهو بالطبع لا يولد إرهابيًا، ولا جهاديا تكفيريًا، وإنما الذي يقوده إلى هذا المنزلق هو بعض من يختلط بهم في محيطه الاجتماعي، فلولا المهندس نايف أبو التين، ومن تربطه بهم من الأشخاص علاقة «الجماعة» و»الدرْس الديني» و»الدعوة» لبقي في حياته اليومية نموذج الإنسان الطبيعي الذي يُسهم بعمله في تلبية احتياجات أسرته التي تفتقر لمُعيل غيره. وهذا ينسحبُ على غيث وزياد، ولو أن الشبان الثلاثة يستمعون إلى صوت العقل، الذي يتمثل في (أبو محمود) لمضوا أيضًا في حياتهم الطبيعية كالمعتاد، بلا تفجيرات، ولا أحزمة ناسفة، ولا دعوات لمحاربة المسالمين من أتباع الدياناتِ الأخرى. والسؤال الذي ينبغي له أن يطرح هو ما الذي يجعل من المهندس (أبو التين) ومن معه رعاة للإرهابيين، ودعاة للإرهاب؟
وتقوم رواية «موسم الحوريات» لجمال ناجي (2015) على عناصر جديدة، فالكاتب، عدا عن أنه تتبع سيرورة الإرهابي من صغره إلى أن يبلغ الاحتراف، وضعنا في مناخات تعجّ بالإرهابيين، سواء منهم من أدى دورا ذا وظيفة في سرد الأحداث، أو من لم يكن له أي دور غير دوره من حيث هو إرهابي في جملة الإرهابيّين. ووضعنا في أجواء تهيمن عليها ثقافة الخوف والتطرف والإفراط في التعصُّب والتشدد الديني، الذي لم يسلم من تبعاته أخ أو أب أو أم، وفي موازاة ذلك تجري الحوادث في أمكنة شتى تشهد الكثير من العمليات الإرهابية، كالقتل والذبح والسيارات المفخخة، والمفرقعات والتفجيرات والأحزمة الناسفة. ولم يفت الكاتب أن يشير بمفردات متكررة لخطاب الإرهابيين الذين لا يتورعون عن اللجوء للكذب والخداع والتخطيط للاغتيالات مقابل الحصول على المال، أو الاعتقاد بأنهم يمارسون بعض أنواع الإرهاب لكي يظفروا في الآخرة بالحور العين والولدان المُخلّدين.
على خلاف الروايات السابقة لم تحتف شهلا العجيلي في روايتها «سماء قريبة من بيتنا» (ضفاف، بيروت، ط1، 2015) بالنموذج الإرهابي من حيث هو شخصية تصاغ ملامحها على مهل، وفي رويَّة سردية لافتة للنظر ولكنها تبادر لذكر ما تؤول إليه الأوضاع بسبب الإرهاب، من دون أن تغفل عن الإشارة لإرهاب الدولة، أو النظام، وهي في ذلك تنفرد عن سواها من الروائيين. واللافت أنَّ الكاتبة تتابعُ ما جرى ويجري في الرقة على أيدي التنظيم تارة، والنظام تارة، فمن حكاية الصاروخ الذي أودى بحياة ابن الجيران محمود، إلى تسليط الضوء على جماعات إرهابية من الشيشان والأفغان والتونسيين والسعوديين، وممارساتهم من قتل واختطاف وسبي ورجم واختراعات غريبة عن طبيعة المجتمع، كل ذلك شيء، وانشقاق جود ابنة سهيل بدران عن الأسرة، وتخليها عن الكثير مما كان يميز بنات الرقة، شيءٌ آخر، فقد ارتدت الحجاب والنقاب والعباءة، والتحقت بما يسمى مطبخ الإغاثة. ووقعت على حين غرة في حبائل إرهابي من البشتون يدعى روح الأمين، فتقدم لها خاطبًا. وقد تصرف في منزل والد العروس – سهيل بدران – تصرفا فظا على عادة الإرهابيّين، فقد أمسك بصورة مؤطرة تظهر فيها البنتان مع بعض الأقارب في عرس وهما عاريتا الأكتاف، وقلبَها، لتغيب الوجوه في بياض الرخام. ومع ذلك وجد الأب نفسه غير قادر على الرفض، فالفتاة لم تعترض، وهذا الإرهابي القادم من قندهار يستطيع أخذها من البيت بالقوَّة، فما فائدة أن يقبل أو يرفض «سيأخذها الأفغاني بقوة السلاح، فالدخول في هذا المستنقع ليس كالخروج منه «. وعلى الرغم من أنّ رواية « مياه متصحّرة» (2015) لا تخلو من سقطاتٍ فنية، إلا أن هاجس الكاتب حازم كمال الدين فيها هو تسليط الضوء على تفشي الإرهاب في بابل وبغداد وغيرهما من مدن العراق بعيد الاحتلال الأمريكي. فالإشارة الأولى إلى ذلك ترد في أثناء الحديث عن جنازة شيعت في مركبة (باص) من الكرخ إلى مدينة الكاظميّة، لأن السائق فوجئ بحاجز عنده ملثمون مسلحون يدققون في الهويات، وعندما اكتشفوا أن اسم المتوفى (عبد علي) أنزلوا التابوت عن سقف الباص، وانهالوا عليه ركلا، وبأعقاب البنادق، وذبحوا الجثة، بعد أن أخرجوها من التابوت، وأجبروا المشيعين على مواصلة طريقهم بعد تثبيتهم التابوت مكانه خاليا لكي يمر بباقي الحواجز، والمدن، فيكون بذلك «عبرة لمن اعتبر» وتعد رؤية الشوارع في هذه الرواية خالية من السيارات المفخخة شيئا يقام له، ولا يقعد، فهو من المفاجآت السارة التي ينبغي لها أن تذكر، ويعاد ذكرها، من باب التأكيد، مرارا.
على أن الرواية تقترب بنا من موضوع الإرهاب اقترابا أكبر عندما تنسب لبعضهم الانضمام لأتباع الزرقاوي. فعندما جرى الحديث بين اثنين من معارف حازم السفاح، وعن سبب إلقائه في أحد المعتقلات التي تشبه الأنفاق، قال أحدهم: إن مجموعة كبيرة من الرؤوس المقطوعة عثر عليها بين أكوام البطيخ (الرقي) على الجانب الآخر من ساحة الأندلس، هو المسؤول عن قطعها، فرد الآخر « طبعا، لقد أصبح زرقاويًا « فأجابه الآخر: أكيد، إن اسمه السفاح، وشجرة عائلة أمه مزروعة في تكريت، وفي الظروف التي تتعرض لها تكريت يضطر المواطنون إلى الانضمام للزرقاوي». أما السفاح نفسه، فيعترف للمروي له بانضمامه لجماعة الزرقاوي، قائلا « صرت مجاهدا في صفوف الزرقاوي، وطفقت أعمل مع ضباط قدامى، ورجال مخابرات، عتاة، من عهد الطاغية، وتجار مدمني مخدرات، لبسوا كوفيات، وتمكيجوا بلحىً تشبه لحية بابا نويل مع فارق اللون والطول والتسريحة. وارتدت نساؤهم النقاب ككاهنات بازوليني..». وتعج الرواية بالسخرية من الجهاديين، مع تركيز شديد على فكرة أنَّ الاستشهاد المبكر يضمن لهم الوصال مع الحور العين، والغلمان المخلدين، في الآخرة. ومعايير الترقية لديهم معايير غريبة ومرعبة، فإذا جزَّ المجاهد 12 رأسا استحق الترقية لرتبة أمير قاطع في حيّ، وإذا بلغ عدد الرؤوس التي جزها 120 رأسًا استحقَّ الترقية لرتبة أمير حي. وإذا بلغ عدد الرؤوس المجزوزة 1200 رأسًا فإن التنظيم سيجعل منه أميرًا لمنطقة. وقد شاع لدى عامة الناس تحول الرجل من إنسان عادي إلى جهادي ذي إمارات وعلامات، منها- مثلا- الإقلاع عن احتساء الكحول، وهذا ما جرى لحازم، وقد ينم على ذلك تحوله من مذهب لآخر، كأن يتحول من شيعي إلى سني، وقد سئل السفاح عن سبب ذلك التحول، أثناء التحقيق معه في قلعة أبي زعبل، مثلما سئل عن التعليمات التي تلقاها من جده هجول التكريتي، وعن الإرهابيين الذين يتصل بهم، ووعدوه إذا هو عاد إلى مذهبه الشيعي بالتوقف عن تعذيبه، في القلعة، بل وعدوه أيضًا بتعيينه مستشارًا في البرلمان.
وتشذ عن الروايات السابقة رواية «خبز وشاي» للكاتب أحمد طراونة، فهي تشير لتوبة الإرهابي، فبعد سنة تقريبًا من انخراط أحمد مع المجاهدين في درعا وغيرها، اكتشف أنه غُرّر به مثلما غُرّر بغيره، وأن المال لا الدين كان حافزه لذلك، وقد عثر على صديق من الأردنيين المجاهدين تعرض لما تعرض له هو الآخر، وتبادلا الحديث في الأمر الذي تورَّطا فيه، وأخيرا يقرر أحمد تغيير ثيابه، وحِلاقة ذقنه، وفي هذه الأجواء تداعت في ذهنه وانثالت ذكرياتٌ عن عمه، الذي يزداد ثراءً، وأستاذ التاريخ الذي يزداد نفاقًا، وجمال الذي يعرفُ ويزدادُ صمتًا عما يعرف، وأخيه خالد الذي ينبهر بما يراه في عمان، وفي إربد، من سيارات دفع رباعي لا يخترقها الرصاص، ويتذكر أيضًا وجه أمه الممتقع فقرًا، وعينيها اللتين ابيَضَّتا من كثرة البكاء، ويقرر تحت وابل الذكريات هذا العودة على جناح السرعة مستجيبًا لنصح من قال له: « إياك أن تجعل منك شهوة الانتقام بطلا، اترك هذا المكان».
وترك بالفعل ساحة الإرهاب الجهادي، عائدًا إلى قريته عبر الصحراء، مفضلا الجهاد الذي يعني لأمه ولإخوته الاستقرار، والطمأنينة، لا الدم ولا القذائف ولا الأحْزمة المتفجِّرة. وبهذا تكون رواية الطراونة «خبز وشاي» رواية لا تكتفي بحكاية أبي وئام الكركي، وهو اللقب الذي نودي به عشية جرى تنظيمه في فصيلٍ جهاديّ، فحسب، إذ لم يكد ينادى بهذا اللقب، حتى وقر في ذهنه أنه من المغرَّر بهم، وأنه يسير على طريق غير مستقيمة، وأن الشيخ الذي التقاه في مسجد جعفر هو الذي وسوس له، وأغراه بالمال والكلام المعسول عن الجنة، وعن الحور العين، فالكاتب يتجاوز حكاية أبي وئام هذا، إلى اتهام الواقع الاجتماعي السائد، بالمسؤولية عن هذا الذي يتورط فيه الشبان. ومن هذه القراءة الموجزة لعدد من الروايات يتضح أن الإرهاب غدا موضوعا لافتا، وهاجسًا مقلقا للروائيين، وذلك شيء لم يعتد عليه القارئ من قبل، ولا شغل به كتاب الرواية المعروفون من أمثال نجيب محفوظ، وعبد الرحمن منيف، وجبرا، وغيرهم الكثير.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى