قراءة سيميائية في ‘يوميات رجل منقرض’

علاء حمد

من العنوان، ونزولا الى حيثيات النصّ، من يوميات رجل منقرض، شكل العنوان مرتبة قصوى لانه جملة اسمية أولا، واعتمد التركيب ثانيا، لتبان لنا علامات سيميولجية، مما تعطي نفاذا مبهرا للدلالات التي سوف يتم تشخيصها عبر النص الشعري الذي رسمه الشاعر العراقي قاسم محمد مجيد، فهو ذلك المبحر ما بين المعاني كي يوظف ذلك ضمن إطار اللغة والتي اعتبرها لغته القصوى، وهي العامل التي تشدني وتشدّ القارئ بشكل عام نحو المتابعة وتمييز مظاهر تداولية وخطابية ونصية، وبما نحن مع قصيدة النثر فلقد أعطى الشاعر ميزته المتواصلة في رصد الحدث الشعري، وهي ميزة تداولية بالمعنى اللساني وتبقى اللغة الشعرية هي الواصل المعقول والدخول الى معجمه الشعري.

“لقد تنقلت اللسانيات عبر مراحل تطورها من العناية بالدراسة الصوتية والصرفية الى العناية بالتركيب ثم الدلالة. وفي كلّ مرحلة كانت تنكشف مظاهر جديدة تسهم الى جانب المظاهر الأخرى في بنية اللغة”. (ص 27 – التواصل اللغوي، مقاربة لسانية وظيفية – لمؤلفه عز الدين البوشيخي).

لَيسَ هُناكَ مَن يَفتقِدُني

لذا سَأركبُ البَاصَ

إلى أقرب حَانة

وحينَ أنصَرِفُ مُتَرنِّحاً

خَيالي مُلقَى أمَامي

مَاذا أفعَل ؟

لقد انتحل الشاعر قاسم محمد مجيد صفة الرجل المنقرض، وأشغل مكانه في الخطاب، لذلك كانت الحسية حارة وهو يستخدم اللغة ولونها البارد، اي جعل الذهنية هي التي اشتغلت بحسية داخلية كي يصل الى ارادة اليوميات للرجل المنقرض. الشاعر استخدم الأفعال المضارعة لعرض محتوى اليوميات، فمفردة أركب / أنصرف وأفعلُ، كلها دلالات، تدل على زمن المستقبل، ولكن الفعل ملقى، للتعبير المجازي الذي راح يشمره بساعده، كتعبير أولي عن عدم حركة الخيال، مما أعطى للقصيدة تضليلا واضحا في عملية الخلق، أي جعلها ذات حراك ولها مساحة فضائية تتحلى بها، الشاعر الساعدي ينحى منحى سيميولوجيا، وهي كلها تصب في السيميائية واللغة التي تشغلها، فعملية الترميز علامة من العلامات تشغل النصّ وتتخلص من التقريرية، وهذا هو مراد الشعرية النظيفة وهي تطرد الحشو والكلمات الفائضة عن الحضور. لقد ارتبطت السيميائية بالمبحث اللساني وهي تزودنا بالمعارف الأخرى كالنقد الأدبي والأسلوبية والتحليل النفسي وعلم الاجتماع.

وتزودنا اللغة بالظاهرة الشمولية للشعرية وهي السنتر القيادي للشاعر والخوض بين جماليتها، واللغة ونظرية الجمال، عاملان رئيسيان في القصيدة والخوض بين حيثياتها:

تَقفُ على أطرافِ كِتمانِهِ

أسرَار!

مِثل طُيورٍ مُجَنَّحة

تُحلِّقُ فَوقَ رَأسِه

وفي أعمَاقِهِ

رَجُلٌ يُثَرثِر!

نحن أمام شاعر يعرف كيف يوظف اللغة وادخال الصور الشعرية من خلالها كي يكوّن لنا جسد القصيدة، فالمفردات التي اعتمدها الشاعر قاسم محمد مجيد، مفردات بلاغية لها الرافد في عملية الخلق الشعري، ومن دون ذلك وألا يدخل الى الشفوية في تأسيس القصيدة، ومن مثل هذه المنافذ كثيرة، وذلك لسوء ثقافة الشاعر، وشاعرنا واحد من الشعراء الذين واكبوا الحداثة وكان واحدا ممن كتب بها.

في اللوحة الثانية يرجعنا الشاعر الى الرجل نفسه، ولكن في هذه اللوحة لم يشغل مكانه “طريقة ذكية للتنويع بين ألوان اللغة وتزاوجها بشكل فني ليخرج بنتائج لها بحرها الهادئ”. فالوقفة مع علامات التعجب التي رسمها، هي الفراغات التي تركها للمتلقي كي يجعله يميز ما بين اللوحتين، فلم يقف الشاعر الا مندهشا، ومن هذه الدهشة ادخل عنصرها، كي تكون القصيدة مع لغتها ذات بناء متماسك وعملية فن النظم:

في داخل الرجل يحدثنا رجل آخر / رجل يتعاطى الثرثرة / وفي خارج الحسّ الداخل، هناك الطيور المجنحة والتي آلت الى الاستعارة مما شكل الشاعر إلينا: الباث والمرسل والمرسل إليه، وهي خطوات في السيميائية وكيفية الدخول الى هذا العلم الواسع.

المفردة لدى الشاعر هي المنطق. وهي الوحدة التي رسمها في تحليل وتفكيك القصيدة، ومن دونها لا يلزمنا العمل على التفكيك والغوص بين جمل القصيدة، وهذه الوظائف لا تخطو الا من خلال التجربة الشعرية التي يتحلى بها الشاعر أو الباث.

حينَ زَارَني الوَهم

لَم أخرُج مِن النَّافِذةِ بَدَلاً مِن البَاب

أو … أتَخيَّلُ السُّحُبَ بَحراً

والعَصافيرَ … خُيوَلاً تَركُض

أو ظِلّي يُجَهّزُ لي فِراشَاً مِن النُّجوم

إن عنصر الخيال وحراكه، يعطي حالة الشاعر في حالة اغفاءته الشعرية، هذا يعني أنه في غيبوبة مع الشعر وتنقية الجمل والمفردات التي يدفعما نحو تأسيس جسد القصيدة، فعنصر الخيال شكّل دافعا متكاملا في خلق الفكرة والاتكاء عليها. ما بين الترميز والخيال، اعتمد على محسوسات وهو المهلهل مع نصّه الشعري مما اعطى سلطة واضحة للدال والمدلول في اللوحة الثالثة وهو يقودني ويقود الآخر الى خياله المتقن:

“يوجد دائما في كلّ واقعة لغوية نقط تلاقي من هذا النمط أو ذاك، وذلك يعود على أنّ الدليل اللغوي يمثّل مركز اللقاء بين علاقات يقيمها هذا الدليل مع دلائل أخرى منتمية الى سياقه وعلاقات متبادلة يقيمها مع دلائل أخرى حاضرة في نفس البدل الذي ينتمي إليه”. (ص 37 – البنيات اللسانية في الشعر – تأليف: سمويل . ر . ليفن. ترجمة: الولي محمد والتوزاني خالد / مكتبة الأدب المغربي).

السحب لديه بحر عائم في السماء، ولكن تبقى البصرية التي انتمى الشاعر اليها عندما قال: لَم أخرُج مِن النَّافِذةِ بَدَلاً مِن البَاب .. ليرجع بنا على عنصر الخيال من خلال الذهنية ثانية ليقول لنا: والعَصافيرَ … خُيوَلاً تَركُض. إن ما بين البصرية التي تعتمد التخييل وما بين الذهنية التي تعتمد الخيال رسم الشاعر هذه المراوغات اللغوية بعيدا عن الاخر، وانما شارك رجله المنقرض في عملية تأسيس الغرف الوحدوية ما بينه وبين رجله.

من يوميات رجل منقرض، والانقراض يشمل المحسوس الذي عاش ولم يرجع ثانية هكذا أراد الشاعر أن يؤول عنوانه والذي لا بد من الرجوع اليه في نهاية المقالة، وقد كان العراق هو الاقرب اليه، ولكن هنا استخدم الشاعر، ما بين التباعد (الانقراض) والتقارب وهي حالة العراق الباكية.

يعتبر نصّ الشاعر العراقي قاسم محمد مجيد من النصوص الاستثنائية والتي أدرجها في خزينة الذاكرة، فليس من السهل والابحار من مثل هكذا نصوص مميزة.

الشاعر العراقي قاسم محمد مجيد من الشعراء المحدثين لنصوصهم وهو يتابع بشغف ويتفاعل مع الحداثة على مدار العام.

• من يوميات رجل منقرض

لَيسَ هُناكَ مَن يَفتقِدُني

لذا سَأركبُ البَاصَ

إلى أقرب حَانة

وحينَ أنصَرِفُ مُتَرنِّحاً

خَيالي مُلقَى أمَامي

مَاذا أفعَل؟

وكَثيرٌ مِن الضَّجيجِ حَولي

وأفوَاه …

مَحشوّةٌ بالرَّمل؟

***

تَقفُ على أطرافِ كِتمانِهِ

أسرَار!

مِثل طُيورٍ مُجَنَّحة

تُحلِّقُ فَوقَ رَأسِه

وفي أعمَاقِهِ

رَجُلٌ يُثَرثِر!

***

حينَ زَارَني الوَهم

لَم أخرُج مِن النَّافِذةِ بَدَلاً مِن البَاب

أو … أتَخيَّلُ السُّحُبَ بَحراً

والعَصافيرَ … خُيوَلاً تَركُض

أو ظِلّي يُجَهّزُ لي فِراشَاً مِن النُّجوم

كُنتُ نِصفَ عَاقِل

أبحَثُ عَنِ الصُّراخ … في صَناديقِ نُعوشِ المَوتَى

وهِي تُشيرُ للقَمرِ بِإصبَعِها

هَكذا أيَامي

أنا أكثرُ شَيخوخَة

وأمشِي على أطرافِ أصَابِعِ المَلَل

***

في جَيبِ الأيّام

سَحَابةٌ على شَكلِ … قُبَّعة

حَاوَلتُ أن أدُسَّ … قَمَراً يَشبَهُ رَغيفَ خُبز

مَددتُّ يَدي

ولَمَستُ بِلُطفٍ كَتفَ المُصيبَة

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى