نورمنديا موطن الانطباعية تحتفي بالطبيعة
الجسرة الثقافية الالكترونية – وكالات -الأحوال الجوية المتقلبة التي تعيشها فرنسا منذ مدة، وترجئ حلول الصيف إلى أجل غير معلوم، لم تثن مقاطعة نورمنديا عن إقامة مهرجان حول احتفاء الانطباعيين بالطبيعة خلال فصل الصيف في منتجعات كثيرة، سواء الواقعة منها على ضفاف السين كجيفرني وفرنون وروان وهونفلور أو المطلة على بحر المانش مثل لوهافر وتروفيل وغرانفيل، وحتى تلك التي تستنشق أنسام البحر عن بعد مثل كان وسان لو، مهرجان يتواصل حتى موفى شهر سبتمبر المقبل.
توزع المهرجان على ثلاثة معارض كبرى: “صيف على حافة الماء” في متحف الفنون الجميلة بكان، “انعكاسات باهرة” في متحف الفنون بروان، و”بيسّارو في الموانئ” في متحف أندري مالرو بمدينة لوهافر، تحوي جميعا نحو ثلاثمئة لوحة لرموز الحركة الانطباعية مثل مونيه وسيزلي ورونوار وسيزان وكايبوط ومانيه ودوغا وموريزيه وغوغان، إلى جانب بيسارو. كل هؤلاء استطاعوا التقاط مظاهر الحياة في تلك الفترة وتحويلها إلى مفردات تصويرية.
لم تكن الطبيعة قبل الانطباعيين منظرا خاصا بذاته، بقدر ما كانت مجرد ديكور لتأصيل مشهد، ثم بدأت تسجل حضورها باحتشام لدى المشهديين مثل بودان وجونكيند وسورا الذين يقفون عند حافة الانطباعية، نظرا لاشتغالهم على الضوء وانعكاسه على صفحة الماء كمساحة مزدانة متحركة، وما يحدثه عليها من شعشعة ولمعان، قبل أن يقتفي أثرهم، على ضفاف نهر السين أو على الشواطئ النورماندية، فنانون آخرون مثل دوبنيي وترويون وكالس وإيزابي.
وكانوا جميعا يستعملون الرسم المائي الذي يستجيب لأبحاثهم بما يتيحه من سيولة وسهولة ذوبان لا يجدونهما في الرسم الزيتي، دون أن يشكلوا تيارا أو يدّعوا الانتماء إلى حركة، ذلك أن الانطباعية، التي وضعوا لبناتها الأولى، لم تظهر إلا عام 1871 في باريس حين توصل بعض الفنانين، الهاربين من المراسم إلى الهواء الطلق، إلى لَمّ شتاتهم، خصوصا بعد أن التحق مونيه بكايبوط في أرجنتوي، تلك الضاحية الباريسية الصغيرة الواقعة على الضفة اليمنى لنهر السين، والتي صارت منطلقا للحركة الناشئة.
هناك واظب مونيه على صوغ إبداعاته، وكذلك رونوار، ثم جاراهما مانيه بعد أن كان يرفض العمل خارج مرسم. عندها تبنوا الماء كعنصر هام، نظرا لشعشعته الملونة وحواره الجدلي مع السماء وطاقة انعكاساته الموحية. بعد أن كان فريق منهم يميل إلى ترجمة ملامح الثلج القطنية، حيث تفقد الأشكال صلابتها، فالماء أقدر على تلبية رغبتهم في امتصاص الأحجام وتشتيتها.
وبرغم روعة الأعمال المنجزة وجدّتها، فإن الجمهور لم يستسغها، بل كان يفضل عليها الأعمال الأكاديمية. وكان الانطباعيون يعانون من ذلك أسفا واستياء، فقد كتب رونوار إلى صديق له يقول: “لا بدّ للمرء من التزود بقدر من الشجاعة كي يمسك فرشاة في زمن الإهمال والتجاهل هذا”.
لولا مونيه، رأس الجماعة ورمزها، الذي استحسن ثيمة الماء ففكّك عناصرها وجدّد بنيتها الشكلية ليلامس تخوم التجريدية المزينة، وإن كان الناقد جون رويالد يرى أن: “الثورات الجمالية هي في العادة من خلق شخصية وحيدة (جوطّو، كَرافاج، بيكاسو مثلا)، في حين أن الانطباعية كانت أول حركة تلغي ذلك التصور”.
فهي من وحي مجموعة يعرف أفرادها بعضهم بعضا ويعملون جنبا إلى جنب، أمام “الموتيفات” motifs نفسها، خصوصا على حافة الماء، مع سعيهم إلى نقل تفاصيل المناخ المتحول، كل على طريقته.
كلهم اشتركوا في التعبير عن تلك المتع النهرية. يقول سيلفان أميك، مندوب معرض روان: «مشاهد ركوب القوارب واليخوت التي انجذب إليها مونيه ورونوار بداية من 1869 هي صور غير مسبوقة لعالم جديد، عالم الضاحية العصرية، التي غيرت ملامحَها ممارسات اجتماعية وأنشطة رياضية ظهرت منذ وقت قريب مثل “زوارق بأرجنتوي” لمونيه و”سبّاقات زوارق” لسيزلي».
ولما كان سرير نهر السين يزداد اتساعا عند بلوغه أرجنتوي، ويتيح مساحة أكبر للمراكب الشراعية، فقد أرسى مونيه عوامته التي اتخذها مرسما هناك، فكان تارة يرسم الحوض وتارة ضفاف النهر كما في لوحته “مونيه في مرسمه العائم”.
أما رونوار وكايبوط فكانا يرسمان المراكب والضفاف في تشكيلة تميزت بتناغم الأزرق والبرتقالي الشاحب، ومثلت صورة لأنماط حياة الاستجمام في ثمانينات ذلك القرن.
بعد ذلك بثلاثة أعوام، أقبل بيسّارو على رسم الموانئ النورماندية لاشتمالها على شريحة متغيرات مناخية لا حصر لها حسب قوله، كما في لوحاته “مدخل ميناء دييب”، “ظهيرة”، و”يوم مشرق”.
وأبدع مجموعة تقوم على مبدإ تصوير الشيء نفسه من الزاوية ذاتها، ولكن في أوقات مختلفة: في الضوء، في الضباب، تحت المطر، عند تصاعد دخان المصانع والسفن البخارية، وكان ردّ الفعل كالعادة مخيبا لآمال الفنان.
يقول باتريك رماد، مندوب معرض كان: “إيثار أولئك الفنانين الهواء الطلق لم يمرّ بسلام، ولكن إصرارهم شكل قطيعة مع الفن الأكاديمي”. وبرغم تفرّقهم في ما بعد واختيار كل واحد مكانا اعتزل فيه، استطاعوا أن يفرضوا تصورهم ويفتحوا بابا لكل الثورات الفنية اللاحقة.
______