ملحمة صداقة بين إميل زولا وبول سيزان تلامس وجداننا

حميد عقبي

نجحت دانيال تومسون في فيلمها الجديد «سيزان وأنا» من جعل شخصيات تاريخية قريبة منا، تضحك وتمزح، تكتب وترسم، تحلم وتخاف، بول سيزان الرسام الفرنسي الانطباعي والكاتب إميل زولا معا على الشاشة العريضة، ليس للتعريف بالمنجزات الفنية والأدبية لهما، فقد ركز الفيلم على قيمة الصداقة ليقدمها كملحمة حقيقية نعيشها وتلامس وجداننا الإنساني، كما أن الفيلم قدم لنا لوحات بصرية ساحرة، ما دفع بعض النقاد لوصف الفيلم بكتاب بصري مدهش والفيلم الغني بالزخرفة الطبيعية، ولعل هذه المناخات الطبيعية أنعشت ونفخت في كل مشهد روحا نشيطة لتقذف بنا في متعة الحكاية وتجعلنا قريبين من الشخصيات، فلا نهابها كونها شخصيات تاريخية وتراثية مرموقة ومهمة، بل نتفاعل معها ونحسّ بكل لحظة، كوننا نعيش صداقة إنسانية تمر بلحظات فرح وسعادة ثم خصام وفرقة ثم عودة وود، وهكذا كسر السيناريو المتقن رتابة العرض الوثائقي فهو لم يهتم بالتسلسل الزمني ولا محطات ولا عرض للمنجزات بشكل مباشر، ولا يعني هذا أن المشاهد سيخرج من دون فائدة، بالعكس هذه الطريقة ستدفعنا للبحث عن هذه الشخصيات ومنجزها الإبداعي.
في أحد تصريحاته يقول الممثل جيوم كانيت «عندما تسلمت السيناريو شعرت برهبة وخوف وكدت أصاب بالإحباط عندما نظرت لشخصية إميل زولا كشخصية من تراثنا المهم والعريق ومخافة فشلي في تقديمها أو أن تهتز صورتها عند الناس، ثم عدت إلى السيناريو وقررت تقديمها إنسانيا وهكذا ذهبت مخاوفي وتحول العمل للذة ومتعة.» أما الممثلة ديبورا فرنسوا فترى أننا مع طاقتين مختلفتين، فطاقة سيزان فضيعة وديناميكية تتفجر غضبا ورفضا وجنونا، تقابلة طاقة زولا تغذيها النظرات إلى دواخل النفس ونظرات إلى الحياة والواقع، ولعل روعة الفيلم أنها ليست درسا تاريخيا أو فكريا جافا، بل كونها تعرض الجانب الإنساني ببساطة. نحن لسنا مع شخصيات هرمة وقديمة بل بالعكس هنا نرى حيوية الشباب وجنونه.»
أما المخرجة فتقول إنها عملت كثيرا لسنوات طويلة من أجل هذا الفيلم وكانت تؤجله إلى أن تجد وقتا مناسبا وكافيا، ولكنها تشجعت وكان خيطها الرئيسي هذه الصداقة التي تتحول إلى صراع في بعض الأوقات، عندما تجد صداقة منذ الطفولة ثم تجد تشاحنا وغضبا أيضا، هذا الأمر مثير ويحتاج للتعمق والبحث فيه وتعترف أنها خافت من الفشل ولكنها حفرت بشجاعة لنحت رؤيتها لهذه الشخصيات وهذا الزمن المهم جدا في تاريخ الإبداع الفرنسي والعالمي، ما زاد شعورها بالمسؤولية، وهكذا بحثت كثيرا ثم جمعت طنا من الملاحظات بعدها عادت لتتأملها وتبحث عن بذور يمكن زرعها لتنبت مشاهد ومشاعر إنسانية ومواقف وصراعات فوجدت نفسها متعايشة ومحبة لكل الشخصيات ووجدت سعادة تعجز عن وصفها فباشرت بكتابة هذا الفيلم.
يرى بعض النقاد أن مشكلة المخرجة في فيلم «سيزان وأنا» هي عدم تحديد ووضع زاوية واحدة فقط، بحيث يتم تقديم صـــورة ثرية وجزء من السيرة الذاتية لرجلين هـــما جزء من تراث فرنسا الأدبي والفني، أي بتعبير أدق أن المخرجة رفضت التنازل عن الآخرين، فالشخصيات خصــــوصا النسائية كان لها حضورها وبريقها الخـــاص ولم تكن مجرد وسيلة ثانوية مساعدة لفهــــم زولا أو سيزان، حاولت كل شخصية نسائية، خصوصا زوجة سيزان التي صرخت في وجه زوجها كي يحسّ بها ويفهمها، كما أن زوجة زولا لم تكن هامشية وخاوية فهي أيضا كشفت لنا البرود الجنسي لزوجها وكذا كراهيتها لسيزان الذي عشقته في مرحلة الشباب المبكر.
المخرجة تومسون تمسكت بمواقف الصراعات ومنها كان انطلاقها لصناعة فيلم يكون قريبا من الجمهور، ولم تخصص جهدها لخلق هالة وقداسة للشخصيتين (سيزان وزولا)، بذلت جهدها لنرى نماذج إنسانية لا تختلف عنا، مبتعدة عن السرد التاريخي والمسار الوثائقي لتكسب القصة وتعرضها في شكل مغامرة ملحمية جاعلة من رابط الصداقة قيمة مقدسة.
كانت مشاهد الفيلم جميلة، والأزياء منسقة وشاهدنا صورا أنيقة، وذلك لدعم الفرجة المريحة وحتى لا يشعر المشاهد بالملل، ولم نر عرضا فنيا للوحات بول سيزان لكننا نعيش في مناخات تشكيلية بطولتها الطبيعة، حيث يوجد أكثر من عشرين لقطة عامة لمناظر طبيعية ونعيش كل لوحة لمدة عشر ثوان على الأقل، كما أن الكثير من الأحداث تدور في رحاب الطبيعة الساحرة أو أماكن خارجية لعل هذا يساهم في تقاربنا مع الحكاية. وفخامة الكثير من اللقطات تقذف بنا في محيط مشبع بالجمال الساحر، كوننا في حضرة كتاب صور جميلة.
الفيلم كنافذة نرى الشخصيات من خلالها في حالات نفسية متعبة ومرهقة وتكافح من أجل الحصول على اهتمامنا وتعاطفنا بعيدا عن التفاصيل التاريخية الدقيقة، نغوص في بحر الصداقة بمناخاتها المتقلبة وعواصفها العنيفة في مشاهد طويلة من الحوار بين اثنين (سيزان وزولا). هذا الفيلم يدعونا إلى الجلوس حول طاولة طويلة رائعة ثم يضخ بنا في مشاهد خلابة مستوحاة من لوحات الفنان الانطباعي المشاكس والرافض للبورجوازية ومظاهرها، الذي يطالب الجميع بفهمه وينتقد صديقه زولا لوقوعه في فخ البورجوازية والجميع يريده رجلا مهذبا وعاقلا وأن يعمل شيئا كي ينجح، لكن جنون الفنان الجامح يقذف به في مستنقعات الفشل والفقر، ورغم كل ذلك يظل متمسكا بفنه ويرفض التنازل مقابل المجد والشهرة.
يبدو زولا كأنه تمثال القائد الذي لا يتزعزع ولكن في مواقف تنفجر مشاعره وغضبه من صديقه ويفصح عن ضعفه الإنساني وتفضحه النظرات إلى الخادمة الشابة والمغرية لتعري تلك المشاعر العاطفية والرغبة التي يكتمها تجاهها، فهو كاتب له مواقفه ووضعه الاجتماعي وشهرته ولكنه يرى أن الكتابة ليست مجرد نقل حرفي للواقع، بل هي ترجمة شجاعة للخيال.
٭ سينمائي يمني مقيم في فرنسا

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى