خوف الرقم 13

أمير  العمري

لاشك أن التحدي الأكبر الذي واجهه المخرج البريطاني “ديفيد سنغتون” David Sington وهو يشرع في إخراج فيلمه التسجيلي “الخوف من رقم 13” The Fear of 13، هو كيف يمكنه أن يروي قصة رجل قضى نحو عشرين عاما في السجن وكان محكوما عليه بأكثر من مائة سنة، من خلال ما يرويه الرجل نفسه، وكيف يمكن أن تكون قصة هذا الرجل مقنعة بقدر ما تثير اهتمام المشاهدين بحيث تصمد على الشاشة أكثر من 90 دقيقة.

هذا التحدّي اجتازه المخرج “سنغتون” بنجاح لاشك فيه، ولعل سبب ذلك يرجع في المقام الأول إلى كون بطل قصته، نيكولاس ياريس (يكتفي الفيلم بأن يطلق عيه نيك) يتمتع بقدرة مدهشة على الحكي، وعلى الصمود أمام الكاميرا في لقطات قريبة لوجهه “كلوز أب”، يقوم حينا بتقليد الأصوات والأشخاص بل ومحاكاة قرقعة السلاح، وفرقعة الطلقات، وصرير السلاسل الحديدية، وصوت أبواب الزنازين وهي تغلق، ويسعى حينا آخر لمحاكاة الأشخاص في طريقتهم في الحديث، أضف إلى ذلك تلك القدرة المدهشة على استدعاء الأحداث من الذاكرة، وصياغتها بينما هو يرويها في شكل حكايات مثيرة، كثيرا ما تصل إلى تأثيرات تشبه تأثير القصص المأساوية أو قصص الإثارة البوليسية التي لا نعرف كيف يمكن أن تنتهي.

يبدأ الفيلم بمعلومات محددة تظهر على الشاشة تقول إن “نيكولاس” المحكوم عليه بالإعدام، بعد أن قضى عقدين من الزمان في السجن ضمن ما يعرف بـ “صف المحكومين بالإعدام”، كتب التماسا للمحكمة التي أصدرت حكمها عليه في ولاية بنلسفانيا الأمريكية، يطلب فيها من القاضي تنفيذ حكم الإعدام عليه خلال ستين يوما. والمعلومة الثانية التي نقرأها أن ما سيرويه الرجل أمكن التحقق من صحته بشكل مستقل.
صدمة البداية
أول ما يستعيده “نيكولاس” ويرويه وكأنه تحت تأثير منوم، هي لحظة دخوله السجن في بنسلفانيا، وكيف تعامل معه الضابط السجان محذرا إياه من الحديث بأي شكل من الأشكال (في سجني محظور على أحد أن يتكلم)، وقد قضى بعد ذلك سنتين ضمن 140 سجينا محكوم عليهم بالإعدام، دون أن يجرؤ على تبادل الحديث مع أحد منهم، فمن يخالف التعليمات يتعرض للضرب المبرح من جانب الحراس. الصمت هنا عقاب إضافي يتم فرضه بالقوة.

إننا لا نعرف ما هي جريمة “نيكولاس”، ولكنه سيكشف تدريجيا عنها، وعن غيرها من الجرائم التي أدّت به إلى السجن، كما سيسترجع جانبا من حياته، مما تعرض له في طفولته، وكيف انتهى إلى ما انتهى إليه، لكن المشاهد يلاحظ من البداية أن “نيكولاس” لا يظهر مثل أي سجين مما اعتدنا مشاهدتهم في هذا النوع من أفلام “الاستجواب” أو “الاعترافات” التي يدلي بها أمام الكاميرا أحيانا، المحكوم عليهم بالإعدام، فهو لا يرتدي ملابس السجن، كما يبدو مستريحا في جلسته وهو يروي قصته أمام الكاميرا، كثيرا ما يتماثل مع القصة ويندمج معها، وأحيانا يسرح بأفكاره بعيدا وتغرورق عيناه بالدموع. وهو يعبر بلغة رجل يعرف ما يقوله، خبر الحياة وتعلم منها الكثير. وتساهم هذه الصورة في زيادة جرعة التشويق لمعرفة ما حدث له، وهو الذي كان يستعجل الموت.

نيكولاس يروي قصته بأسلوب أقرب إلى أسلوب الروايات المشوقة الخيالية، كيف قام سجين أسود شاب ذات يوم بكسر حدة الصمت داخل السجن عندما أخذ يردد كلمات أغنية مازال نيكولاس يحفظها عن ظهر قلب، بصوت يصفه بالتفصيل، ويصف تأثيره السحري عليه وعلى الجميع، ومنذ تلك اللحظة، أصبحت هذه الأغنية مفتاح حرية الكلام داخل السجن، فقد أصبح بوسع السجناء تبادل الحديث دون أن يتعرض لهم الحراس.
يروي نيكولاس أيضا كيف شهد تعرُّض سجين لاعتداء بسكين أثناء الاستحمام الجماعي، ففقد حياته، وكيف تأثر بهذه الجريمة البشعة خاصة بعد ما رأى كيف استمرت الحياة داخل السجن بشكل اعتيادي وكأن شيئا لم يقع، وكأن إنسانا لم يفقد حياته للتو، فقد توجه السجناء لتناول طعام الغذاء وأخذ أحدهم يعترض على قلّة ما حصل عليه من الخبر!
يكشف بطلنا تدريجيا، ليس من خلال أسلوب يلتزم بالتدرج الزمني، بل من خلال قصص متقاطعة مستعادة، يقوم المخرج بتوزيع فقراتها على مدار الفيلم من خلال بناء متعرج، ينتقل بين الأزمنة المختلفة في حياة البطل، حيث نرى تفاصيل من قصته يعاد تمثيلها وإن على نحو غامض وبالحركة البطيئة كما لو كانت حلما أو كابوسا، خاصة وان البطل – الرواي – يتماهى معها ويعيشها ويسترجعها بوصفه الدقيق لتفاصيلها وكأنه يضع مسودة سيناريو بتفاصيل اللقطات.

سنعرف مثلا أنه أدمن المخدرات منذ أن كان في الخامسة عشرة من عمره مما دفع أسرته إلى طرده، فهام على وجهه مع صديق له من الأشقياء، وانغمس في سرقة السيارات وكان الاثنان يقومان ببيعها إلى رجل كان يحدد لهما أيضا نوع السيارة التي يسرقانها، ثم ينفقان ما يحصلان عليه من مال على شراء المخدرات، إلى أن وقع المحظور ذات يوم، عندما فوجئ نيكولاس بضابط شرطة يوقفه وينزله من السيارة ويحاول أولا ضربه بعصا غليظة تمكن هو من تخليصها منه وإلقائها بعيدا، ثم شرع مسدسه في وجهه، فما كان من نيكولاس سوى أن أخذ يقاومه إلى أن انطلقت رصاصة من المسدس، وأمام المحكمة زعم الضابط أنه تعرّض للاعتداء والضرب وأن صاحبنا اختطف مسدسه وهدّده به وأطلق النار أيضا لكنه لم يصبه، كما قدم صورة مزيفة تثبت أن يده أصيبت بجرح جراء العراك، وهي قصة يؤكد نيكولاس أنها مفبركة فهو يرويها كما حدثت من وجهة نظره. ويتعين علينا أن نصدقه طالما أن المخرج أخبرنا من البداية أنه تأكد بنفسه من صحة رواية بطله.

لحظة الوعي
ستأتي لحظة التنوير أو الاستنارة التي يحدثنا عنها نيكولاس عندما يعكف في السجن على قراءة مئات الكتب من كل الأنواع، ويتمكن من التهام 1000 كتاب خلال ثلاث سنوات، ليكتشف أن في داخله إنسانا آخر لم يكن يعرفه، وتأتي لحظة الانسجام الذاتي الجميل، اللحظة التي تتغلب فيها نزعة الخير الموجودة في داخله.

لكن هذه اللحظة لن تدوم فسرعان ما سيتم اتهامه في قضية اغتصاب وقتل سيدة متزوجة والتخلص من جثتها، وتكون الظروف المحيطة أي الشبهات فقط أساس الحكم عليه بالإعدام دون وجود دليل مادي قاطع. وهو يؤكد أنه لم يرتكب الجريمة ولا تربطه أي علاقة بالسيدة الضحية، ثم يروي كيف وقع في غرام الأخصائية الاجتماعية الشابة التي كانت تتردد عليه واهتمت بقضيته وظلت لسنوات تتابعها معه، ثم تزوجها وهو لايزال في السجن.
وتظهر بقعة ضوء جديدة في أواخر الثمانينيات عندما تُكتشف الوسيلة الجديدة التي غيرت مجرى الطب الشرعي مع اكتشاف الحامض النووي DNA.
لكن الأمر سيقتضي مرور سنوات وسنوات لكي يقال له بعدها أن المحكمة فقدت كل أثر من آثار السيدة القتيلة التي يمكن مطابقة الحامض النووي عليها. هنا ستتخلى عنه حبيبته وزوجته بعد أن قضت خمسة عشر عاما تسانده في صبر عجيب، من أجل إثبات براءته، لكن رغم تركها له إلا أنه لا يعرب عن أي شعور بالاستياء أو الغضب، بل يقول إنه تفهّم موقفها، بل شعر بارتياح غريب بعد ذلك دفعه الى طلب الإسراع في تنفيذ عقوبة الإعدام.
خلال تلك الفترة العصيبة وكما في الروايات البوليسية المشوقة، تقود الصدفة وحدها إلى العثور على متعلقات للقتيلة، يرفعون من عليها علامات مميزة من القاتل الحقيقي (حيوانات منوية أساسا)، ويتم بالتالي إطلاق سراح نيكولاس لكي يبدأ حياة جديدة في الخارج بعد أن قضى عشرين عاما وراء القضبان.

هذا فيلم ليس كسائر الأفلام، ليس فقط بمغزاه الإنساني وما يعرضه من تجربة يمكن أن تصيب أي إنسان بشرخ يهز حياته ويحطمها إلى الأبد، بل بمستواه الفني المتميز وطريقة مخرجه في عرض الموضوع وتقديم الشخصية الوحيدة فيه دون الاستعانة بمقابلات مع أطراف مختلفة فطموح المخرج الأساسي هو التسلل داخل عقل هذا الرجل لمتابعة نمو وعيه وتطوره من صبي منحرف إلى رجل ناضج يتحدث مثل أي مثقف يمتلك أيضا فلسفته الخاصة في الحياة ويملك القدرة على التسامح والتسامي.

المخرج ينجح بأسلوبه الخاص في سرد الموضوع، في جذب المشاهدين رغم أن الجمهور يدرك من البداية أن الرجل الذي عرفنا أنه كان يستعجل تنفيذ حكم إعدامه، لم يُعدم بالطبع، وأنه يروي قصته أمام الكاميرا بنفسه وليس من خلال ممثل ما.
ويلجأ المخرج إلى الانتقال من القصة المشوقة المتداخلة المتعددة الفصول التي يرويها نيكولاس إلى استخدام بعض الأصوات والصور التي يحرص على إبقائها تجريدية، سواء من الحياة داخل السجن، أو من لقطات خارجية يمنحها بعض الغموض، مع استخدام تأثيرات متعددة ضوئية على شكل فلاشات، أو إعادة تجسيد أصوات وقع أقدام الحراس في السجن، وصوت أبواب الزنازين وهي تغلق، أو استخدام الأغاني التي يشير إليها بطل الفيلم في خلفية الصورة على شريط الصوت، مع التحكم الدقيق في تدفق الصور واللقطات المتداخلة التي تقطع السرد التقليدي لتنتقل من وجه البطل إلى تجسيد بعض ما يرويه، خاصة عندما يسترجع ما تعرض له في طفولته من اعتداء جنسي صادم ربما يكون قد أدى إلى سقوطه في إدمان المخدرات بعد ذلك.

ربما يشير عنوان الفيلم إلى ضرورة رفض التشاؤم والتمسك بالتفاؤل والأمل، وأن الخوف التشاؤمي من المستقبل لا مبرر له، فمن الممكن أن ينتهي الأمر على عكس ما يتصور المرء ويتخيل. إنها ببساطة، دعوة للتمسك بالأمل.

(الجزيرة الوثائقية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى