«بطل» محمود الورداني يكويه «بيت النار»

الجسرة الثقافية الالكترونية-الحياة-

لماذا العودة الآن إلى رواية «بيت النار» لمبدعها محمود الورداني التي نشرت عام ثورة 25 كانون الثاني (يناير) 2011، على رغم أن تلك الرواية لا تتناول لحظة تلك الثورة ولا اللحظة الراهنة بطبيعة الحال؟ تنبغي العودة لأنّ ليس أدق من هذه الرواية في وصف حالة مصر من قلق واضطراب وتقلب بحثاً عن طريق جديد، ولأنها تضع أمام أعيننا تاريخ اللحظة الراهنة؛ تاريخ الشقاء الممتد الطويل متجسداً في شخصيات وأحداث وآمال تكافح من أجل واقع جديد. إن رواية «بيت النار» لا تغازل سطح القضايا الساخنة لمواجهة أوضاع قمعية فاسدة، لأن تعرية واقع اجتماعي وسياسي وثقافي من هذا القبيل في حاجة إلى اختمار بطيء معقد. وهي تطرح مسائل انتمت على نحو رئيسي إلى الفترة من أواخر الستينات إلى السبعينات من القرن العشرين. ولا يعني تقادم مادة تناولها إنها كفت عن أن تكون ذات دلالة للواقع الراهن، فقد عبرت عن مواجهة المنطق العميق لا المظاهر السطحية للوضع الغابر وهو منطق تتردد أصداؤه في الحاضر وسجلت اختمار حركة مقاومته الطويلة، وذلك يضيء زوايا وأركاناً من الحاضر والمستقبل.

تصاحب الرواية بطلها في رحلة حياته التي انتهت به كاتباً سياسياً مبدعاً مجدداً. والرواية ليست سيرة ذاتية كما أن الثورية فيها ليست صراخاً أجوف، بل هي جزء من روح العمل ونسيجه. ويصف الروائي الرائد والناقد المرموق علاء الديب رواية «بيت النار» بأن كاتبها صاغ مادتها «الإنسانية» في سهولة وبساطة حتى وصل إلى عذوبة رائقة تمس العقل والقلب في آن. فما بيت النار؟ إنه حرفياً الفرن الذي كان الكواء يبينه لوضع مواقد الكيروسين وعلى كل موقد مكواة يتم تسخينها إلى ما يقترب من التوهج لتصبح صالحة للكي. ومقصود ببيت النار مجازاً في عنوان الرواية التجارب الكثيرة التي أنضجت شخصية بطلها الصبي منذ أن مات أبوه وقرر العمل وهو دون العاشرة. لقد اضطر إلى العمل في دكاكين ومحال متنوعة وتقلب بين حرف متعددة موزعاً للثلج في حي شعبي ثم صبي مطبعة، ثم صبي كواء في منطقة شعبية أخرى يحمل «الشغل» إلى الزبائن في الزمالك الحي الراقي وهو يتعلم الحرفة في الدكان ويأتمر بأمر أسطوات يعلمونه حِرفاً لا رابط بينها. حتى عمل صحافياً و»مرمطوناً» في إعلانات مجلة اسمها «صوت العروبة» لا يعرف رئيس مجلس إدارتها القراءة والكتابة وتسميها أمه «عربخانة». ثم التحق بالعسكرية مجنداً وفي صرف إعانات وفاة ونقل الشهداء من المستشفيات إلى المقابر. واشتغل محترفاً ثورياً في تنظيم سري تفكك وتحلل بعد ذلك من دون أن يكون له مقابل احتراف، بل كان يدفع اشتراكاً، وكل ذلك لم يؤد به إلى شيء يرتاح لبلوغه. وكثيراً ما هفت نفسه إلى أشغال فنية متخيلة: عازف قيثارة أو رسام أو مغني راب، وهو في واقع الأمر لم يمارس أياً منها إطلاقاً.

ويعتمد أسلوب الرواية على الصور المختصرة السريعة في وصف سلوك الشخصيات وتحوله المفاجئ، أسلوب لا يتعمق وراء تعقيد النفوس، بل هو مكبر متاح للرؤية يرسم الرجال والنساء من الخارج أو يمسك بهم في وضع مفرد دائم مركزاً على ملمح لا يتغير في لمحة خاطفة من العين لا تأبه بتصوير الذات الداخلية المركبة. تبدو شخصيات «بيت النار» مظاهر خارجية ثابتة لا أكثر من ذلك. إن محمود الورداني يكتب عن أهل المدينة المصريين الذين تضاءلت لديهم تدريجاً طريقة حياة الجماعة المتآلفة في الريف وترتكز حياتهم على التجربة الفردية والمصلحة الشخصية بدلاً من علاقات الأسرة الأبوية الممتدة وترابط أهل القرية الواحدة. وتقع الرواية في أحياء لم تصبح صناعية بعد، والأعمال التي يقوم بها الصبي ليست أعمال إنتاج كبير، بل هي أعمال ورش صغيرة ودكاكين، أشغال علاقاتها شبه حرفية، علاقة الأسطى والمعلم بالصبي وليست علاقة المهندس بكتلة من العمال.

وعلاوة على ذلك فأحياء المدينة سريعة الإيقاع وسكانها بخلاف سكان الريف في حاجة ليكونوا متيقظين، قادرين على التكيف والتلاؤم مع التنوع والتغير. وفي هذه الأحوال ينمي الفرد هوية «وجه في الزحام». ومن المفارقة أن هذا الوجه في الزحام يكثف الإحساس بالتفرد المنعزل. فلم تعد الهوية قائمة على المشاركة في القرابة والجيرة وشجرة العائلة، لأن المدينة فككتها جميعاً وصارت العلاقة المعتادة مع الآخرين، علاقة لقاء سريع مع أغراب أكثر من لقاء أهل وخلان. ويصطدم الناس معاً عشوائياً بدلاً من أن تربطهم صلات مستمرة على رغم توحد عواطفهم حول الاستقلال والعروبة والحرية ربما نتيجة تأثير وسائل الإعلام العالية الصوت واستجابتهم لها.

والصبي بحكم ملابسات تكوينه بروح أسرة مكافحة مليئة بالتفاؤل أحب العاملين المصريين، واعتزازهم بالصنعة وإتقانها. وسيواصل تلك المحبة في صنعة الكتابة. وتمتلئ الرواية بحب العائلة المصرية البسيطة؛ ممثلة في أم البطل التي لم يسلبها صراعها المرير مع الواقع حنانها ولا قدرتها على الابتهاج بالحياة وبعث الفرح في نفوس طفليها.

وفي السنة الأخيرة قبل تجنيده اكتوى بطل الرواية ببيت نار اكمل إنضاجه هو العمل السياسي إبان الحركة الطالبية وتعرض للاعتقال. وكان الصبي على خطأ في يقينه أن السادات لن يحارب بعد خطاب الضباب الشهير الذي اعتصم الطلاب بعده أسبوعين كاملين انتهيا باقتحام قوات الأمن أبواب الجامعة واعتقال ما يقرب من ألف طالب، وانهار الاعتصام بالقوة. أما عمله كمحترف في منظمة ثورية فكان أحب الأشغال إليه وأكثرها بهجة وإبداعاً أدبياً متواصلاً. وفي أعقاب هروبه من الاعتقال بعد انتفاضة 18 و19 كانون الثاني (يناير) 1977 جرى فصله من عمله كمدرس وتقرر ضمه إلى صفوف المحترفين الثوريين.

إن رواية «بيت النار» تحكي عن عملية تكوين شخصية المثقف السياسي المصري في أطواء تكوين شخصية مصر المناضلة من أجل الاستقلال الوطني والتوحيد القومي والحرية السياسية والاجتماعية. وهي لذلك ذات دلالة للحاضر والمستقبل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى