مالك الرحباني يكتب بالإنكليزية خارج الأصناف

كاتيا الطويل
كتاب مالك الرحباني الأوّل (بالإنكليزية) «صُوَر، نشوء ذاتيّ للعقل» IMAGES, a personal evolution of the mind» غريب من نوعه، ولا بدّ من البدء بمحاولة تصنيفه. فلا هو رواية ولا هو مجموعة قصصيّة ولا هو قصائد نثر، هو أقرب إلى الخواطر منه إلى أيّ نوع أدبيّ آخر. وطريقة طباعة هذه الخواطر حديثة تقترب من قصيدة النثر، فبعض الأسطر مخصّص لكلمة واحدة وبعض آخر يحمل خمس كلمات أو ستّاً ذات وقع حادّ. ويجد القارئ نفسه كذلك أمام لعبة طباعيّة أخرى، فالكاتب اختار عددًا من الكلمات داخل كلّ نصٍّ وجعلها مُسوّدة، وهي عمومًا كلمات مفاتيح أراد الكاتب الشاب تسليط الضوء عليها وجعلها نوعًا من الخيط الرفيع الذي تمرّ عبره الأفكار وتشكّل أساس النصّ.
يتناول الرحبانيّ في نصوصه هذه التي لا تتعدّى الخمسة والأربعين مواضيع ذاتيّة وجدانيّة تنمّ عن الخيال. فنراه مرّةً قاتلاً، ومرّة ممثّلاً، وأخرى رضيعًا أثناء الولادة، نراه طفلاً يسير خطوته الأولى أو كهلاً أُصيب بالألزهايمر. مواقف من الحياة لا يتذكّرها المرء أو لا يفكّر فيها أو لا يتخيّلها حتّى يضعها الرحبانيّ ضمن إطار لغويّ ويكشف عنها النقاب، فيتابعه القارئ لا هو عالم بنهاية النصّ الذي بين يديه ولا بموضوع النصّ الآتي من بعده. فلا تسلسل واضحًا في الأفكار والموضوعات، كما لا وضوح في الهدف من هذه التراتبيّة في النصوص، وكأنّ الكتابة تمّت بأوتوماتيكيّة صرف لا يسيطر عليها سوى الخيال والاعتباطيّة.
نصوص الرحباني قصيرة متماسكة، لا تتخطّى بمعظمها الصفحتين أو الثلاث. ولمّا كانت ذاتيّة مستنبطة من حياة الكاتب الشاب ومخيّلته وثقافته نراه يتكلّم مستعملاً ضمير المتكلّم المفرد «أنا» الذي منح الكلام حميميّة. ويقع القارئ في عدد من النصوص على صور مجازيّة جميلة وعلى تراكيب لغويّة رقيقة تقف بالتباس بين الشعر والنثر، فنذكر مثلاً ما يورده الرحبانيّ في نصٍّ عنوانه «الرجل في المعطف الداكن اللون» فيقول على لسان رجل مجهول الهويّة يتحدّث إلى شاب: «هل لمحتَ طفولتي يا صديقي؟ لقد هربت منّي منذ مدّة خوفًا من أن أهجرها وها إنّني أبحث عنها منذ زمنٍ ولكنّني لم أفلح في الإمساك بها بعد. لا تظنّنَ أنّني كنتُ أتعقّبكَ، لكنّني أرى سنواتي الضائعة في عينيك. هلاّ أعدتها لي؟ هلاّ أعدتَ لي طفولتي التي أتوق إليها؟ إسمعني لو سمحت، كان الجميع يحبّني في السنوات الماضية، أمّا اليوم فجميعهم رحلوا وتركوني هنا واقفًا بمفردي. فهلاّ منحتني شيئًا من السنوات؟» (ص 129-130)
وتؤطّر هذه النصوص مقدّمة وخاتمة تشكّلان نوعًا من الحوار يقيمه الرحباني مع قارئه، ففي أوّل الكتاب نراه يرحّب بقارئه ويحضّره للآتي من النصوص، أمّا في خاتمة الكتاب فيشكر قارئه ولا يودّعه بل يخبره بأنّه يفضّل استعمال عبارة «إلى اللقاء» بدلاً من «وداعًا» فيختم قائلاً: « حان الوقت لأقول وداعًا، لكنّني لا أحبّ الوداعات وأفضّل أن أقول إلى اللقاء. هذا الكتاب إنّما هو بداية صداقة، حياة، مغامرة جديدة، قد أترككم لفترة من الزمن لكنّني سأعود حتمًا، فلا تظنّوا بأنّكم ستتخلّصون منّي بهذه السهولة». (ص 161).
أمّا المرسلة التي تنساب على مدار النصوص فهي ضرورة الحلم والارتفاع عن اليوميّات والتمسّك بما هو أجمل وأعلى من السماء فالحلم هو ما يُبقي الإنسان حيًّا: «وتذكّروا دائمًا أن تحلموا. احلموا لأنّ الحلم لا يزال مجّانيًّا ففي المستقبل قد تضطرّون إلى دفع الضرائب على أحلامكم». (ص 161-162).
كتاب مالك الرحباني ظريف وفيه حداثة شابّة وواعدة، فالنصوص غريبة وغير متوقّعة على رغم بعض الملل الذي تبثّه في نفس القارئ في بعض المواضع. وتتخلّل النصوص رسوم لبيار عبّود وهي بالأبيض والأسود وترتبط وثيق الارتباط بالموضوعات وتضفي لمسة جذّابة على الكلمات.
(الحياة)