الفاضل الجعايبي يرتقي بـ «العنف» تطهيرياً وجمالياً

عبده وازن
ما إن تطل الممثلة على المسرح واضعة على أنفها محرمة ترد عنها الرائحة الكريهة التي تشمها حتى بدت كأنها شخصية هاملتية ولكن في تونس، بل في هذا السجن الكبير الذي تفوح منه رائحة «العفن» التي شمها هاملت في مملكته. غير أن هذا السجن الذي شاءه المخرج التونسي الفاضل الجعايبي أسود يميل إلى الرمادي لم يكن تونس فقط عشية ثورة الياسمين وغداتها، بمقدار ما بدا لبنان وسورية والعراق وليبيا… وقد يسمح للمخيلة أن تتصوره سجن أبو غريب أو غوانتانامو بقاتليه وقتلاه. هذا السجن التونسي ينقلب أيضاً، عندما تظهر الممرضة برداء أبيض تضعه فوق ثيابها السود، مصحاً للأمراض النفسانية. في مسرحية «العنف» التي كتبت نصها الممثلة الكبيرة جليلة بكار، يلتبس «الفضاء» في أن يكون سجناً ومصحاً لأنه المكانان معاً. فالسجناء كما السجانين أو المحققين، جزارون وضحايا، لكنهم جزارون قبل أن يكونوا ضحايا. العنف هو العنف، أينما كان وكيفما تجلى، هو عنف الفرد والجماعة، العنف الكامن في اللاوعي أو العنف اللاإرادي، العنف المجاني أو الهادف. هكذا شاء الفاضل وجليلة والممثلون وفي مقدمهم الكبيرة فاطمة بن سعيدان أحد أركان فرقة الجعايبي، أن يحفروا في أعماق مقولة العنف، ولكن مسرحياً ومشهدياً، نفسياً وتاريخياً، سياسياً وذاتياً. ولعل مسرحية «العنف» (قدمت ليلة واحدة في مسرح المدينة). هي حصيلة هذا البحث الدرامي والتقني والفلسفي والبصري. وعلى غرار ما قال أنطونان أرتو في «المسرح وقرينه»: «إننا نحتاج حقاً وقبل كل شيء، إلى مسرح يوقظنا: أعصاب وقلب»، نخرج من مسرحية الجعايبي – بكار في حال من اليقظة ولكن المصحوبة بـ «التطهر» (الكاترسيس الإغريقي) وبـ «السحر» الذي يمارسه هذا المخرج المتفرد الذي قلب مفاهيم المسرح عربياً وعالمياً. العنف هنا على رغم قسوته ووحشيته وغرائزيته، يظل عنفاً تطهيرياً لأنه عنف تراجيدي يحرر العنف نفسه من أسر اللامعنى والمجانية.
خيط ملحمي
لم تسلم بنية العرض المسرحي كما شاءه الجعايبي من أثر العنف، بل هو بدا الحيز الذي تتجلى فيه قسوة الشخصيات والوقائع المستقاة من أحداث حقيقية عنيفة شهدتها تونس خلال الثورة وأذهلت ببشاعتها الرأي العام، وكذلك عنف النص واللغة والجسد في حركته وتعابيره. بنى المخرج العرض المشهدي بناء «مشظى» كما تُبنى الصورة في مرآة مهشمة، فالمشاهد تنفصل وتتبعثر في انفصال الشخصيات والوقائع وتبعثرها، لكنها تتصل وتتواصل عبر خيط درامي يجمعها بعضاً إلى بعض، وهو خيط شبه ملحمي متوال، نسجه المخرج في حركة مضطردة بين تصاعد وخفوت، صمت وصخب، توتر وانهيار. وساهمت الموسيقى الحية والمتنوعة الإيقاعات التي عزفها على المسرح مباشرة قيس رستم في مرافقة حركة العرض وإضفاء جو داخلي متلون عليه، وبدت الموسيقى كأنها طالعة من عمق اللعبة المسرحية وليست تزييناً خارجياً لها.
ثمانية ممثلين أدوا شخصيات عدة وتنقلوا بينها وتبادلوا في أحيان الأدوار أو المواقع في هذا السجن القاتم، تعاركوا، تواجهوا، صرخوا أعلى ما أمكنهم في أحيان، تداعوا، اعترفوا، انهاروا في حركة أداء فردية وجماعية: زهرة قاتلة ابنها ببرودة، أحرقت نصفه الأعلى وفاحت رائحة شوائه في الحي القروي، فاطمة قاتلة زوجها حسين هشّمت رأسه بآلة حادة بينما كان هو يقرأ وجريمتها لا تخلو من «القدرية» التي تجعل من فعل القتل نوعاً من «سوء فهم» (ألبير كامو)، مروى وفاضل وناجي وصالح قتلوا أستاذتهم التي تعلمهم الفلسفة ونكلوا بجثتها وكأنهم «قاتلون بالفطرة» (أوليفر ستون)، أيمن يذبح في لحظة حب مجنون عشيقه قيس هوساً أو شغفاً مرضياً به، وهذه الجريمة العاطفية يجعلها الجعايبي حافزاً للتطرق إلى الواقع المأسوي للمثليين في تونس كما في العالم العربي والعنف النفسي والجسدي الذي يكابدونه من كونهم ضحايا أقدارهم.
هذه الشخصيات ومن يحيط بها من سجانين ومحققين، ومن مرضى بالنفس والجسد، ومن زائرين يطرأون على هذا العالم حتى ليبدوا كأنهم أسراه أيضاً (المرأة التي تزور زهرة على سبيل المثل)، جسّدها الممثلون القديرون وأعطوها وأخذوا منها، وتعمّقوا فيها، في تعابيرها وحركتها العنيفة – والرمزية في آن – وفي لاوعيها، وتبادلوا اللعب برهافة وقسوة، ببراعة وليونة وهذيان وعنف شفاف. وبدا الجعايبي كعادته دوماً قائد «أوركسترا» بارعاً في نحت الحركة الآدائية، فردياً وجماعياً، وفي منح أجساد الممثلين أقصى مداها التعبيري مع الانضباط الذي هو الوجه الآخر للّعب أو التمثيل.
سينوغرافيا الضوء
ولعل ما يساهم في بلورة حركة الممثلين وحضورهم هو الإضاءة المنحوتة بدورها، نحتاً جمالياً ونفسياً. الإضاءة لدى الجعايبي جزء رئيسي من العرض وتقنياته، وهو غالباً ما يسبغ على الإضاءة مهمة سينوغرافية بارزة خصوصاً عندما يكون المسرح متقشفاً وخالياً من التفاصيل. تصبح الإضاءة هي الحيّز الذي تبرز فيه الشخصيات أو الممثلون حتى ليبدوا أشبه بـ «أيقونات» بديعة محفورة وسط المسرح ولكن حية ومنفعلة ومتفاعلة. الإضاءة تساهم أيضاً في «أيقنة» الحركة والإيقاع وفي بلورتهما بصرياً وجمالياً. يملك الجعايبي عين رسام بارع، ومن خلال هذه العين يخلق الإطار البصري البديع الذي يتحرك فيه الممثلون ويساهمون في صنعه.
وكم بدا ناجحاً وفريداً استخدام لوح الزجاج مثلاً خصوصاً عندما يتطاير منه الغبار، في دلالة رمزية إلى هشاشة الزمن والإنسان نفسه. هذا اللوح الذي يحمله السجناء إلى طاولة اللقاء في السجن (الحقيقي والمتوهم) يضحي أشبه بمرآة مغبشة لا يرى فيها السجين إلا وجهه مشوهاً حتى في وجه زائره. لكن هذا السجن الفارغ، بمقاعده السوداء والرمادية والذي يتحول أيضاً مصحاً فارغاً بدوره، يبدو فعلاً مملوءاً وحافلاً، ولا يشعر المشاهد أن ثمة فراغاً أمامه على الخشبة. هذا ما يسمى الفراغ المليء، الذي لا يترك فيه الممثلون زاوية خالية خصوصاً عندما يغلف كل ممثل نفسه بفضائه الواقعي والنفسي.
لا يغيب شغف المسرح عن ذهن الجعايبي حتى في صميم العرض المسرحي نفسه، فالممثلتان جليلة بكار وفاطمة بن سعيدان تكشفان في لحظات من الانفصام، المتبدي في حركة خلع القناع، تتحدثان عن جليلة الأخرى وفاطمة الأخرى، أي عن الممثلتين كلتيهما، وتستعيدان ذكرى «المسرح البلدي» الشهير في تونس العاصمة، وما حصل له خلال الثورة. إنها لحظات استفاقة مسرحية داخل المسرحية، أضفت على اللعبة بعضاً من الطرافة، مثلها مثل بعض الجمل ذات الطابع الكوميدي العبثي التي اخترقت السوداوية العميقة التي تهيمن على العرض.
العنف في مسرح الفاضل الجعايبي وجليلة بكار ومع الممثلين البارعين، القدامى والجدد (نعمان حمدة، لبنى مليكة، أيمن الماجري، نسرين المولهي، أحمد طه حمروني، معين مومني) يبدو عنفاً تطهيرياً مهماً مضى في القسوة والجنون والهذيان. العنف هنا أجمل كثيراً من العنف نفسه وإن وازاه في بعده التعبيري والرمزي. لا يحاكم الجعايبي هنا العنف ولا ينزل «عقاباً» في القتلة، بل يفتح عالم الغرائز القاتمة ليسلط ضوءاً على حقائق ونوازع هي في صميم الإنسان ولاوعيه. وليست استعادة جملة ألبير كامو في المسرحية عن «الوحش» الكامن في الإنسان إلا تأكيداً على قدرية العنف التي تحكم الإنسان منذ وجوده على هذه الأرض.
(الحياة)