الفن اللبناني لم ينجُ من السياسة

فاروق يوسف
في جـزء كبير من كتابها «الموضوع السياسي في اللوحـــة التشكيلية في لبنان»، ركــزت الفنــانـــة والباحثة اللبنانية رويدا الرافعي، علـــى مســألة الفصل بين ما هو إبداعي وبين ما هـــو استهلاكي. وهي إذ تعتبر كل تلبية لحاجة المجتمع الجمالية من الفن نوعاً من الممارسة الاستهلاكية، فإنها تخلط بين الفن الــتــجاري وإمكـان أن يتحول النتاج الفني إلى سلعة يتم تداولها في السوق. وهو أمر شائك لم تدخل المؤلفة إلى تفاصيله المعقدة. ذلك لأنها لم تنتبه بسبب تركيزها على موضوع بحثها، إلى أن ما صنّفته إبداعاً هو الآخر يتحوّل وفق منطق السوق الفنية إلى ماكنة لإنتاج البضائع. نظرة سريعة وعابرة إلى نشاط المزادات الفنية حول العالم، يمكنها أن تحسم الموقف لمصلحة السوق من غير أن تكون هناك حاجة الى الحديث عن فن استهلاكي، وهو مفهوم قد لا يكون منضبطاً إلا إذا كان يشير إلى الفن التجاري الذي لا أعتقد أن الباحثة كانت معنية به.
تجتهد الرافعي في تعريف الاستهلاك في الفن، فتقول إنه عبارة عن «إعادة إنتاج الأفكار المعروفة والمتداولة ليلبي الحاجات الجمالية لمجتمع أو حقبة أو مرحلة وفق معطيات فنية وجمالية مقيمة، معروفة وثابتة، تستفيد من معطيات إبداعية أنتجها فنانون مبدعون، سرعان ما تحولت إلى مثال يُحتذى»، وهنا تدفع المؤلفة عربة منظورها النقدي في اتجاه منطقة أخرى، حين تعتبر اتجاه البعض من الرسامين اللبنانيين إلى تقليد التجارب الفنية العالمية واحداً من مظاهر الاستهلاك. وهو ما يمكن أن يكون صحيحاً لولا أن الباحثة حاولت أن تجرد الفن السياسي المنتج لبنانياً من طابعه الاستهلاكي، على رغم أنها لم تنف وجود ذلك الطابع. وهي إذ تنتهي إلى القول «بأن اللوحة السياسية في الفن اللبناني هي ظاهرة إبداعية وليست ظاهرة عابرة استهلاكية»، فإنها استندت في إثبات فرضيتها إلى تحليل مراحل بعينها من تجارب ثلاثة فنانين، هم: عارف الريس ورفيق شرف وحسن جوني. وهو اختيار ينمّ عن معرفة عميقة بما يمكن أن يحصل عليه الباحث من نتائج باهرة من خلال تفحّص تجارب الفنانين الثلاثة.
يتألف الكتاب الذي هو عبارة عن أطروحة تقدّمت بها الفنانة الرافعي لنيل شهادة الدكتوراه من الجامعة اللبنانية (وهو من منشوراتها)، من ثلاثة أقسام. اختصّ الأول بإشكاليات الموضوع السياسي في اللوحة، في حين كان الثاني مخصصاً للتفريق بين ما هو إبداعي وما هو استهلاكي في الفن. أما الفصل الأخير، فقد جاء بعنوان «محطات إبداعية في التشكيل اللبناني». ما يحسب للباحثة أنها حرصت على دعم فرضياتها النظرية بتجارب فنية، كانت في مثابة تطبيقات عملية للحالة التي عاشها لبنان في تاريخه المعاصر، وهو التاريخ الذي يبدأ من وجهة نظر الرافعي مع انتقال الفلسطينيين من الأردن إلى لبنان بعد أيلول (سبتمبر) الأسود. حينها، بدا واضحاً تداخل الفني بالسياسي من خلال نمط فني مرتجل، شكلت الملصقات التي غزت شوارع بيروت مادته الأساسية. وقد يكون ذلك سبباً مباشراً في شيوع نوع من التبسيطية، الشعبوية في ممارسة فنية ستلقي بظلالها الزائلة على نتاج عدد من الفنانين اللبنانيين الذين سعوا إلى أن يكون لهم حضور في تلك الظاهرة المستحدثة، مدفوعين بشعورهم الوطني.
في كتاب «الموضوع السياسي في اللوحة التشكيلية في لبنان»، جهد نقدي متميز هو الأول من نوعه من جهة معالجته لظاهرة فنية، صارت اليوم جزءاً من التاريخ، غير أنها تركت الكثير من أثرها على مستوى النظر إلى الفن ووظيفته الاجتماعية التي حاول البعض من العقائديين تقييدها بالالتزام السياسي. وهو ما هبط بالفن من مستوى الإبداع ليدخله في متاهة الاستهلاك. ولأن البحث كان جديداً في موضوعه، فقد خالطته بعض الهنات. فعلى سبيل المثل، إن الكاتبة لم تلق نظرة متمهلة على النتاج الفني العربي الذي يدخل في نطاق الفن السياسي، فمرت في شكل عابر على عدد من الأسماء، على رغم أن ذلك النتاج قد أثر بقوة في التجربة اللبنانية التي هي موضع البحث.
(الحياة)