بول كوليير يتساءل: أليس بالإمكان اعتبار الهجرة نفسها ‘هجمة استعمارية مضادة’؟

محمد الحمامصي

يسعى بروفيسور الاقتصاد والسياسية العامة في جامعة أوكسفورد سر بول كوليير في كتابه “الهجرة.. كيف تؤثر في عالمنا؟” الصادر عن سلسلة عالم المعرفة ترجمة مصطفى ناصر، للحصول على إجابات لثلاثة أصناف من الأسئلة: ما الذي يؤثر في قرارات؟ كيف تؤثر الهجرة في أولئك الذين يبقون في أوطانهم؟ كيف يؤثر ذلك في السكان الأصليين للبلدان المضيفة؟

ويؤكد على أنه مهما اختلفت الاتجاهات في دراسة الهجرة فلا بد من التعامل معها كمسألة أخلاقية، ويتساءل: من أي منظور أخلاقي ينبغي الحكم على التأثيرات المتنوعة للهجرة؟ ويقول “الاقتصاديون لديهم وسيلة جاهزة في الحكم من وجهة نظر أخلاقية تسمى مذهب المنفعة، وهي وسيلة تصلح نظريا لهذا الغرض، لهذا أصبحت معيارا أساسيا، غير أن هذا المعيار ضمن إطار أخلاقيات التعامل مع الهجرة عاجز عن أداء الدور المطلوب”.

ويرى كوليير إن هجرة الفقراء إلى بلدان غنية من الظواهر المثقلة بإيحاءات مريرة، حيث يشكل استمرار ظاهرة الفقر التي تنتشر على نطاق واسع في مجتمعات تقع ضمن المليار الأفقر تحديا خطيرا للقرن الحادي والعشرين، ويضيف “حين يرى كثير من الشباب في هذه المجتمعات وجود فرص للحياة المرفهة في مكان آخر من العالم، فإنهم يتلهفون للرحيل عن أوطانهم، وسواء كان ذلك بوسائل شرعية أو غير شرعية، ينجح بعضهم في مساعيه، كل عملية نزوح فردية تعد نصرا لروح التحدي البشري والاصرار على البقاء وتجسيدا للشجاعة والابتكار في التغلب على قيود البيروقراطية التي يفرضها الأغنياء المتوجسون. من هذا المنظور الوجداني، تبدو أي سياسة للتعامل مع الهجرة غير سياسة الباب المفتوح خسيئة ودنيئة”.

ويستدرك كوليير مؤكدا أن الهجرة لا تخلو من نزعة أنانية، المسئوليات والأعباء التي يتحملها آخرون في ظروف تدعو لليأس يجري تجاهلها، فيما يترك العمال مواقع عملهم ويهجر الأشخاص الأكثر قوة وجرأة أوطانهم تاركين الضعفاء وحدهم لمصيرهم.

من هذا المنظور نقول إن سياسة التعامل مع الهجرة ينبغي أن تأخذ في الاعتبار تأثيراتها في أولئك الذين يبقون في بلدانهم، والتي كثيرا ما يتجاهلها المعنيون فلا يكاد يهتم بها أحد. أليس بالإمكان اعتبار الهجرة نفسها “هجمة استعمارية مضادة”؟ إنها قد تتخذ صيغة الثأر من الجهة التي استعمرت بلادك في يوم من الأيام.

المهاجرون يشيدون مستوطنات في البلدان المضيفة تؤدي إلى انحراف الموارد عن وجهاتها الصحيحة، أو إلى صراع مع القيم الأصلية. ومن هذا المنظور أيضا ينبغي لسياسة التعامل مع الهجرة أن تحمي أولئك الذين لا يتمكنون من الهجرة، قضية الهجرة لها علاقة وطيدة بالمشاعر والقيم الإنسانية، مع أن ردود الأفعال إزاء التأثيرات الافتراضية للهجرة يمكن أن تحرف سياسة التعامل مع هذه القضية إلى أي اتجاه”.

ويحدد كوليير ثلاثة أشياء مهمة عما يدفع إلى حصول الهجرة على مستوى دولي، أولا الهجرة رد فعل اقتصادي في طبيعته على الفجوة في مستويات الدخل، فإذا تساوت بقية الأشياء، فإن الضغط الذي نحو الهجرة يصبح أقوى كلما كانت فجوة الدخل أوسع.

ثانيا؛ هناك أنواع لا تحصى من العوائق الاقتصادية والقانونية والاجتماعية أمام الهجرة ولها أهمية كبيرة في تحويل الهجرة إلى مسألة استثمار: لا بد من أن يتحمل المرء التكاليف قبل أن يتوقع جني الثمار. ما دام الفقراء هم الأقل قدرة على تحمل المرء تكاليف الاستثمار. فهذا يولد توازنا للضغط الذي تسببه فجوة كبيرة في مستويات الدخل. إذا كانت الفجوة واسعة لأن الناس في البلاد التي ينطلق منها المهاجرون يعانون فقرا مدقعا، فمن المحتمل أن تحبط رغبتهم في الهجرة. والشيء الثالث الذي نعرفه جيدا هو أن تكاليف الهجرة تصبح يسيرة ـ

إلى حد ما ـ مع وجود شتات من البلد الأصلي في البلد المضيف، سوف تقل تكاليف الهجرة مع ازدياد حجم المهاجرين الذي سبق أن استقروا هناك. إذن فمعدل الهجرة يتحدد من خلال مدى اتساع الفجوة ومستوى الدخل في البلدان التي يأتي منها المهاجرون، وكذلك حجم الشتات. هذه العلاقة ليست تراكمية بل هي تتضاعف، ففجوة واسعة مع شتات قليل، أو فجوة ضئيلة مع شتات كبير، كلاهما لن يولد سوى تدفق ضئيل في الهجرة، يعتمد السيل المتدفق للهجرة على وجود فجوة واسعة تتفاعل مع شتات كبير ومستوى كاف من الدخل في بلدان المصدر.

ويشير كوليير إلى أن الحكومات السيئة في البلدان الأصلية تستحق تماما ما تلقاه من الشتات الساخط عليها، فليس كل ضغط يمارسه الشتات من أجل المنفعة العامة، ويقول “كثيرا ما تنظر الحكومات إلى أفراد الشتات باعتبارهم بؤرة للتطرف والمعارضة السياسية التي تغذي الصراعات”.

ويضيف “يعتبر الشتات من الأصول الثابتة التي لها أهمية محددة في ظروف ما بعد الصراعات والحروب الأهلية، من الناحية النموذجية تستمر الحروب الأهلية سنوات طويلة، يهاجر أثناءها الشباب المتعلمون، عدم الاستقرار السياسي والانقسامات الدينية كلاهما يغذيان الهجرة، والثروة أيضا تخرج من البلاد بدلا من أن تواجه الدمار.

إذن في مرحلة ما بعد الصراع يصبح الكثير من الأشخاص في المجتمع ورؤوس الأموال خارج البلاد. يتمثل التحدي هنا في كيفية إرجاع هؤلاء الناس والأموال، والاثنان مرتبطان: إذا عاد الناس فمن المحتمل أن يجلبوا معه ثرواتهم من أجل بناء المنازل وتأسيس الأعمال. غالبا ما تكون خطورة الأوضاع وقلة المهارات في ظروف ما بعد الصراع مثيرة للقلق.

على سبيل المثال في أثناء حكم الزعيم عيدي أمين في أوغندا والذي قتل خلاله نحو نصف مليون إنسان، كان المتعلمون هم الذين يُستهدفون بصورة منهجية. كان من الأوليات في فترة ما بعد الصراع استعادة مؤسسات التعليم العالي، لقد أجري بحث حول الشتات الأوغندي ووجد أن 47 من حملة الدكتوراه موجودون فقط في مناطق المحيط الهادئ وجرى إقناع أحدهم بالعودة لإدارة أول المراكز البحثية الفكرة”.

ويرى ان استمرار الهجرات الجماعية يهدد التمازج الثقافي في الدول الغنية، فبعض التعدد يضيف نكهة خاصة إذا دخلت على سبيل المثال إلى هذه الدول المطاعم التايلندية أو الموسيقى الكونغولية، بيد ان وجود نسبة كبيرة من المهاجرين غير المستوعبين قد يجعلهم يتشبثون بالاعراف الثقافية التي جعلت وطنهم الأم غير قادر على أداء وظائفه، وطردهم من البلد المضيف، وبالاضافة إلى ذلك، فان المجتمع عندما يسوده عدم الانسجام فإن سكانه قد لا يكونون مستعدين لدفع فاتورة دولة الرفاة السخية، ويقل دعم التوجه نحو إعادة التوزيع، إذا ما اعتقد دافعو الضرائب أن المستفيدين من ذلك أناس ليسوا مثلهم.

ويخلص كوليير إلى أن الهجرة على نطاق عالمي تأتي ردا على التفاوت المنتشر في العالم، وأن الشباب من البلدان الأكثر فقرا يدرك كما لم يحصل سابقا وجود فرص في أماكن أخرى، لقد اتسع هذا التفاوت خلال القرنين الماضيين وسوف يغلق خلال القرن القادم.

ويقول “على الرغم من أن الهجرة العالمية هي رد فعل على التفاوت واللامساواة، فإنها لا تعالج الظلم على نحو واضح. إن ما يدفع إلى التقارب الاقتصادي هو تغيير النماذج الاجتماعية السائدة في المجتمع الفقيرة بصورة تدريجية، تصبح مؤسسات تلك المجتمعات أكثر استيعابا للتغيير وأقل خضوعا لآراء النخب المستبدة، وتتحول السرديات الاقتصادية فيها من عقلية تقف عند الشكوى والنواح إلى التطلع نحو الآفاق الواسعة للتعاون الإيجابي، ويتحولان تدريجيا من القبيلة للوطن.

وتتعلم المنظمات كيف تجعل العمال منتجين أكثر من خلال الربط بين المقاييس والمحفزات. هذه التغيرات الجذرية تتحقق من خلال تعديل الأفكار العالمية لكي تتلاءم مع سياقات محلية. مع زيادة قوة وتأثير النماذج الاجتماعية ونمو الاقتصاد، تصبح الهجرة من الأرياف الفقيرة مهمة في الواقع لكن الرحلة بين لاغوس ومومبي وليست إلى لندن ومدريد”.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى