«تحت الظل» للإيراني بابك أنوري.. هيبة الذعر
زياد الخزاعي
للذُعر هيبته. ليس بسبب عنفه وحسب بل في «تشنيعه» لهوان البشر وخِزَايَة حيلهم ضد شياطين تُخلق من حولهم. هل الجنّ حقيقة؟ في باكورة الإيراني المقيم في لندن بابك أنوري «تحت الظل»، الذي رشحته «المملكة المتحدة» للتنافس ضمن خانة «أفضل فيلم أجنبي» في جوائز «الأوسكار» الأميركية 2017، تستعيذ السيدة المحجبة بغلاظة من ذكرهم، وتقول بجزع لجارتها الشابة شيده (نركَس رشيدي) المشتكية من أقاويل الصبي مهدي القادم من مدينة عبادان لابنتها دُرسا حول مجيئهم الوشيك، برغم انه أبكم: «يأتون خفية تحملهم الرياح. ستكونين موسومة. إنهم يعرفون كيف يجدونك». ما علامتهم إذاً؟ حسب أنوري هي صاروخ «سكود» عراقي أُطلق خلال الحرب بين بغداد وطهران. سقط على سقف عمارتهم، مخترقاً تحصيناتها من دون أن ينفجر. فتحته الواسعة التي خلفها ستكون ممراً للفحات الهواء، ومن ثم لظلال الكائنات غير المرئية المطارِدة لشيده وابنتها على مدى الـ84 دقيقة من وقائع شريط تخويف امتاز بتوازنه وبساطته واختزاليته الدرامية. مرادهم، إقناع الصبيّة ومصاحبتهم الى عالم الظلمة حيث وحشيّة البشر مغطاة بسواد خرافيّ، وراحة الأنفس محميّة بموت دهريّ. أما وسيطهم فهو دميتها المسمّاة «كيميا».
ذلك «الشيء» الجامد والمتحوّل مع تقدم فصول الفيلم الى علامتين اختزاليتين لأحوال العائلة الصغيرة المحاصرة بصافرات الإنذار من «صواريخ صدام»، ومارشات الحرب، وهتافات الحماسة. الأولى، ما يتعلق بأم شابة خسرت أملها نهائياً في العودة الى دراسة الطب، عقوبة على تورّطها في نشاط يساريّ بداية ثورة 1979. لن يشفع لها اعترافها أمام المسؤول الجامعي الشرس بهدوئه ولا تعاطفه: «كنت صغيرة وساذجة. لم أفهم الفرق بين اليسار واليمين. كنت قلقة بشأن مستقبل البلاد. آمنت بالتغيير». إذاً، نحن أمام سيدة شابة على قدر معتبر من الوعي والبأس، بيد أن ما ينقصها هو مواجهة حقيقية، تبدأ طلائعها مع قول زوجها الطبيب أريج قبل التحاقه بالجبهة: «أقترح عليك أن تجدي هدفاً جديداً في حياتك»، ليشعل في داخلها جمرة تنمّر لن تخبو إلا بممارستها رياضات لياقة بدنية شهيرة للممثلة الأميركية جين فوندا عبر شريط فيديو مهرّب ومحظور التداول، فيما ننتظر معها ما سوف يفجر «شجاعتها» الأمومية، ونجدة اعتبارها الشخصيّ، وضمان وحدة عائلتها في غياب معيل أساسي.
الأم الدمية
العلامة الثانية، تتعلق بالسلطويّ وعزمه في فرض مشيئته. في حالة الأم شيدة تصبح الدمية سلاح وافدين مستورين للهيمنة على الشقة الصغيرة (صُور الشريط في الأردن)، ووسيلة اختراقهم لطمأنينتها وأداة لتخريبها قبل دفع الصغيرة دُرسا الى الاعتداء على والدتها، صارخة بجنون: «سأذهب معهم». حينما تهربان للمرة الأولى، تلتقيان وسط شوارع الحارة الفارغة البيوت من قاطنيها بأعوان «الباسداران» الذين يعنّفون الأم لرأسها المحسور، لكنهم لن يستفسروا عن حالة ارتياعها وأسبابها. يدفع المعتقل الحكومي بشيدة وابنتها الى العودة للموئل العائلي والشروع في صونه ضد سطوة «الجنّ» الذي «خلقناه من قبل من نار السّموم» (سورة الحجر 27). إنها جبهتهما الحقيقية لتوكيد كيانهما وحريتهما ومستقبلهما واستقلاليتهما. تماما، كما فعل الطلاب اليافعون في شريط أنوري القصير والذكي «2 زائد 2» (2012) بانتفاضتهم ضد منظومة تدريسية غريبة تصرّ على فرض نتيجة خاطئة في أن جمع الرقمين يساوي 5! باعتباره حقيقة قطعية تبرر قيادة الجموع وتنظيم وعيها وقناعاتها. نشهد إعداماً رمزياً لطالب عاند على رقم أربعة، فيما نراقب آخر يجمع جسارته ويشطب السقطة من دفتره المدرسي مسلحاً بإيمانه. عليه، تتكاتف شيده ودُرسا معا ضد قوى غيبيّة للفكاك من أسرها، توافرت أبلغ فصولها دراميّة في مشاهد الملجأ، حينما يحاصرهما قماش واسع لعباءة «تشادور» ترتديه «جنية»، ابتغت عبر نشره على القبو الموحش ومساحته المكتومة خطف الصبيّة وسحبها نحو هاويته، قبل أن تُحوّل أرضيته قطراناً أسود يكاد يبتلع أمها، لولا شجاعتها وسرعة مبادرتها وإغاثتها.
خيالات صبا
يقول أنوري ان «تحت الظل» الذي دعمت إنتاجه «مؤسسة الدوحة للأفلام» القطرية، فصولا من خيالات صباه مع أقرانه، وهم يترسّمون أشباح حرب ضروس كحكايات تخويف حامت حول عالمهم وبراءاتهم. مشدّداً على أن شريطه ليس سيرة ذاتية تبتغي تسيّس حقبة فواجع وملامات. انعكس هذا التوجه الواعي على مزاج النصّ وإيقاعه حيث نأى المخرج الشاب بفطنة عن إغواءات الصدمات التقليدية، معالجاً العلاقة بين الأم وابنتها كوحدة أنثوية ضد عدو ملتبس، يمكن ضمه الى نوع (جنر) حداثيّ هو «فيلم رعب نسويّ» (فمينست Feminist). أما عن تشكيليته، فسايرت نهجاً بصرياً شعّ بابتكارية نادرة في تحفة الأسترالية جنيفر كنت «بابادوك» (2014) واستعارتها فنون مسرح خيال الظل وتلميحاته الحركية و «تغريبيته» الديناميكية. لذا، نشاهد «جن» أنوري كلمحات مرسومة تركض بين غرف، أو تهبط من أو تهرب عبر سقف مشروخ تسبب به صاروخ «حرب المدن»، أو تكشف عن أسنان دمية ضخمة تحت سرير دُرسا، أو كرجل ينام الى جانب الأم على سريرها الزوجي. الحاسم في «تحت الظل» أنه لا يشيطن «عدواً» مغيّباً، فصورة ديكتاتور العراق تظهر في مفتتح الفيلم فقط ضمن ريبورتاج وثائقي مهد الى أجواء معارك وغارات وجحافل وتحصينات وفوضى تخترق سلام العائلة الصغيرة. أما الواقعة الأساسية فتتعاظم محنتها داخل شقة، صوّرها البريطاني كت فريزر القادم من عالم الإعلانات بلون أصفر فاقع، وبضياء شرق أوسطي وهاج، وديكور متناظر مزدحم بلعب أطفال وألوانها الزاهية من تصميم ناصر زعبي (عمل ايضا في فيلم المعلّم البريطاني كين لوتش «آيريش روت»،2011). تمت محاصرة جغرافيتها السينمائية بوفرة من أصوات مركّبة، هندسها بحرفية عالية ألكس جوزيف، لموسيقى عسكرية وصافرات إنذار وأصوات أذان وهدير مكتوم وصراخ فزعات ظل وهمسات مفجوعين وعويل عواصف ليلية فـ «حيث الخوف والقلق تهب الريح»، كما ورد في مؤلف محظور للكاتب غلام ـ حسين سعيدي تقرأه الأم شيده.
(الجسرة)