عودة ملكة الصحراء

أمير العمري

كان من حسن الحظ أن يُعرض في الدورة الـ60 من مهرجان لندن السينمائي الفيلم الوثائقي- التمثيلي الطويل “رسائل من بغداد” Letters from Baghdad الذي اشتركت في إخراجه مخرجتان هما سابين كراينبول وزيفا أويلباوم، وهو من الإنتاج البريطاني- الأمريكي- الفرنسي المشترك.

يعتمد هذا الفيلم على مزيج من الصور الفوتوغرافية واللقطات السينمائية المصورة ومواد الأرشيف، مع إدخال عنصر التمثيل لأداء أدوار عدد ممن عرفوا الشخصية محور الفيلم، وهي البريطانية جيرترود بيل، التي أطلق عليها العراقيون “الخاتون” أي السيدة.

غيرترود التي ولدت عام 1868، كانت قصة مغامراتها في بلاد المشرق العربي قد تحولت إلى فيلم روائي طويل هو فيلم “ملكة الصحراء” (وهي صفة أخرى أطلقتها عليها الكاتبة جورجينا هويل) الذي عرض قبل نحو عامين، وهو من إخراج الألماني فيرنر هيرتزوج، وقامت بالدور الرئيسي الممثلة- النجمة نيكول كيدمان. وجيرترود كاتبة وعالمة آثار ومستكشفة ورحالة إنجليزية، تجولت في الشرق الأوسط في أوائل القرن العشرين، وعاشت لسنوات متنقلة بين إيران وسوريا والسعودية ومصر ثم استقرت للأربع سنوات الأخيرة من حياتها في العراق إلى أن لفظت أنفاسها الأخيرة عام 1926 متأثرة بتناول جرعة زائدة من الأدوية المهدئة. وليس معروفا هل كانت تقصد الانتحار بعد تلك الحياة الغريبة الحافلة في المحيط العربي خاصة الصحراء العربية، وكانت تركب الجمال بصحبة رجال من البدو، مما دعا الكثيرين إلى أن يطلقوا عليها “لورنس العرب المرأة”.

تعتبر جيرترود، بشخصيتها وتكوينها، من أكثر الشخصيات البريطانية بل والأوروبية عموما شغفا بالثقافة العربية والإسلامية، وقد تعلمت اللغة العربية وأجادتها، وكتبت لوالدها في إحدى رسائلها العديدة تقول إنها تشك في أنها يمكن أن تعود مجددا للعيش في بريطانيا، وأسرّت له أنها تعتبر العراق وطنها ولا تستطيع الخروج منه، وقد وقعت مثل معاصرها ضابط المخابرات البريطاني لورنس (أو لورنس العرب) في غرام الصحراء العربية، ودرست طباع وعادات القبائل العربية البدوية وكتبت عنهم، بل إنها اقتفت آثار لورنس عندما قبلت العمل في خدمة الدبلوماسية الكولونيالية البريطانية في المنطقة، خلال الحرب العالمية الأولى وما أعقبها مباشرة من تقسيم مناطق النفوذ بين الفرنسيين والإنجليز بموجب معاهدة سايكس- بيكو الشهيرة، كما اختيرت للعمل كمستشارة للمندوب البريطاني المعتمد في العراق خلال ما عرف بـ “الانتداب البريطاني”، ولعبت دورا بارزا مباشرا في رسم حدود دولة العراق الحديث التي برزت على خريطة المنطقة والعالم عام 1921. وقد كتبت الكثير عن حبها للعراق وللشعب العراقي، ووجهت انتقادات كثيرة للإدارة البريطانية الحاكمة في العراق، وكانت كسيدة تتمتع بالنفوذ الكبير بين الرجال، تكافح من أجل منح العراقيين حق تشكيل حكومة مستقلة عن الإنجليز بل وكانت هي التي اقترحت تنصيب الملك فيصل ابن الشريف حسين، ملكا على العراق. وقد دفنت بناء على وصيتها، في بغداد وشارك الملك فصيل في جنازتها.

كل هذه المعلومات يأتي في سياق هذا الفيلم سواء من خلال الرسائل التي نستمع إليها بصوت الممثلة البريطانية تيلدا سوينتون، أو من خلال السرد البصري الثري وتعليقات الشخصيات التي عاصرت واقتربت وعرفت وصادقت جيرترود، من دون استخدام التعليق الصوتي المحايد التقليدي من خارج الصور، بل إن الصور تظل هي الأكثر تأثيرا ورسوخا في الذاكرة، تدعمها المعلومات، في سياق جدلي شديد الثراء، مدهش في جمال تدفقه وانسيابيته وما يتولد عن صوره من مشاعر خاصة وأن فريق الفيلم تمكن بفضل البحث الشاق من العثور على الكثير من اللقطات التي تعرض للمرة الأولى، معظمها لقطات حية من القاهرة وبغداد وطهران ودمشق والقدس وحائل وغيرها.

الفيلم يعد أحد الأفلام الملهمة التي تستخدم الوثائق في سياق درامي بصري شديد الثراء يستمد مادته من عشرات الرسائل التي كتبتها “الخاتون” جيرترود إلى والدها الذي كانت ترتبط به بعلاقة خاصة بعد وفاة والدتها، ثم زواجه من امرأة أخرى كانت تعتبرها أما لها، لكنها سرعان ما آثرت أن تغادر وطنها الأصلي، ولا تعود إليه سوى مرة أو مرتين، في إجازات قضتها في بلدتها الساحرة في الريف الانجليزي نرى لها لقطات ساحرة في الفيلم.

تقرأ تيلدا سوينتون مقاطع من هذه الرسائل التي تروي الكثير من أسرار تلك الفترة الحافلة، كما تتعرض للتطورات السياسية، والحياة العاطفية الخاصة لجيرترود، وإن على استحياء، والعلاقة مع شعوب المنطقة، والاكتشافات الأثرية التي ساهمت في إزاحة الستار عنها وإنقاذها، وزياراتها المتعددة للمدن العراقية القديمة مثل بابل والوركاء. إننا نرى بقايا العثمانيين، ودخول الإنجليز إلى بغداد، والمعتمد البريطاني في مصر بصحبة الدبلوماسيين البريطانيين، وممثلي القبائل العربية، وغيرهم.

نشرت الرسائل الكاملة لجيرترود بيل في كتاب صدر في الولايات المتحدة عام 2014، وهو الذي ألهم مخرجتي الفيلم للإقدام على صنعه، بعد أن تمكنتا من تدبير ميزانية جيدة تسمح بالانتقال للتصوير بين بلدان عدة، وشراء الكثير من الوثائق والصور من جهات رسمية وأشخاص. وإلى جانب الرسائل، يعتمد الفيلم على الكثير من المواد المصورة سينمائيا من تلك الفترة بين 1911 و1926، ومنها الكثير من الصور الفوتوغرافية التي كانت تلتقطها جيرترود للأماكن التي زارتها وأقامت بها، وكذلك المقاطع السينمائية التي حصل عليها فريق الأبحاث الذي عمل في الفيلم، من الأرشيف في بلدان عدة. وينتقل الفيلم بين الحياة الشخصية لبطلته، إلى رحلاتها الكشفية بصحبة مساعدين وأدلاء من العرب، إلى دورها السياسي الكبير في رسم معالم العراق الحديث، وهو دور يكشف عنه الفيلم للمرة الأولى على هذا النحو من التفصيل والجمال أيضا الذي يأتي من العلاقة الوثيقة بين الصوت والصورة، بين الرسائل التي تقرأ منها تيلدا سوينتون بصوتها، وبين اللقطات والصور النادرة التي حصل عليها فريق الفيلم من جهات عديدة ومن المجموعات الخاصة لعدد كبير من الأفراد الذين انتهت إليهم من أسلافهم.

ويعيد الفيلم تصوير الكثير من الشخصيات التي اقتربت وعرفت عن قرب واحتكت بالسيدة البريطانية من خلل ممثلين وممثلات يقومون بأدوار هذه الشخصيات ومنها لورنس العرب وعدد من الدبلوماسيين والضباط البريطانيين العاملين في العراق، ودبلوماسية أمريكية عاصرتها في بغداد، وأختها من والدها، وزوجة أبيها وصديقة لها كانت زميلتها في الدراسة أيضا، وعدد من الشخصيات العراقية من النساء والرجال الذين عرفوها عن قرب ويحملون الكثير من الود تجاهها. ولاشك أن ظهور مثل هذه الشخصيات (ولو من خلال ممثلين) اقتضى الكثير من الجهد في البحث والتنقيب عما تركوه من مذكرات أو ذكريات أو ما نشر على ألسنتهم في الصحف وما سجلته عنهم الأمريكية جورجينا هويل (لها كتاب آخر بعنوان “ابنة الصحراء”).

تشير جيرترود في إحدى رسائلها أنها مهتمة ببحث أوضاع يهود بغداد وأنها قامت بزيارتهم وإلى أن عددهم يبلغ 80 ألفا في مدينة يبلغ عدد سكانها 200 ألف نسمة، ويعرض الفيلم صورا لأعداد منهم يعيشون في وئام وانسجام مع باقي العراقيين. ولكن الفيلم يعبر على هذه النقطة سريعا ربما بسبب عدم توفر مزيد من الصور.

يتميز الفيلم بطابعه القصصي البديع، الذي ينقلك من خلال الصور واللقطات المصورة في زمن الأبيض والأسود، وفي عصر الفيلم الصامت، مع إضافة بعض المؤثرات الصوتية وإدخالها على بعض اللقطات مثل تلك اللقطة البديعة التي نرى فيها السيارات في بدايات ظهورها (وكانت اختراعا جديدا) تسير على استحياء في شوارع القاهرة جنبا إلى جب مع العربات التي تجرها البغال والخيول، ولقطة نادرة لجسر قصر النيل الشهير على نهر النيل يعبره المارة والعربات والحمير المحملة بالبضائع، قبل أن يتم توسيعه، وتظهر الشوارع والجسور قبل بدء استخدام الأسفلت في أعمال الرصف، وينتقل الفيلم مع لقطات أخرى لشوارع لندن ومنطقة البيكاديللي وهي تزدحم بالحافلات ذات الطابقين، كما تستخدم مخرجتا الفيلم الخرائط والتصميمات المتحركة (الجرافيكس) وقصاصات الصحف، وشهادات الشهود، وصفحات من رسائل جيرترود بخط يدها، ومواد الأرشيف، وينتقل الفيلم من الصحراء العربية إلى لندن الفيكتورية، ومن السيارات الأولى إلى أول رحلة بالقطار لجيرترود، ومن مشاهد طهران والقدس إلى لقطات وثائقية نادرة من الحرب العالمية الأولى، ثم لقطات لدخول القوات البريطانية بغداد بعد هزيمة الأتراك في الحرب.

وفي واحد من أهم مشاهد الفيلم نشاهد بعض الصور واللقطات التي تبرز وتجسد ما تتحدث عنه جيرترود في إحدى رسائلها، عن تمرد سكان إحدى القرى العراقية على الإنجليز ورفضهم دفع الضرائب، وكيف أصدر الحاكم العسكري البريطاني إنذارا مكتوبا موجها لهم باللغتين الإنجليزية والعربية (وثيقة هامة نادرة يعرضها الفيلم) يهددهم بقصف بلدتهم إن لم يتراجعوا عن قرارهم، ويمنحهم مهلة محددة قصيرة، وفي لقطة أخرى نشاهد طائرة حربية تقصف القرية ثم لقطات من الجو للمنازل المدمرة، ونعرف من خلال شريط الصوت، أن القصف لم يؤد إلى نتيجة بل على العكس أدى إلى انضمام العراقيين من سكان قرى أخرى إلى الإضراب عن دفع الضرائب. وتقول جيرترود إنها اعترضت على سياسة استخدام العنف. وفي رسالة أخرى تقول: “كنت أرى أن الوضع الصائب هو تشكيل حكومة عراقية تضم مستشارين بريطانيين، ولكن بدلا تم تشكيل حكومة بريطانية تضم مستشارين عراقيين”!

في فيلم كهذا يبرز كثيرا دور المونتاج الذي قامت به ببراعة كبيرة المونتيرة “سابين كراينبول” التي شاركت في إخراج الفيلم، وتعاملت برقة وذكاء وسلاسة مع المادة الهائلة التي حصلت عليها، ونجحت في وضعها في سياق رومانسي يصطبغ بنوع من الحنين إلى الماضي، مع إبراز النزعة الإنسانية عند بطلة الفيلم ودورها في تأسيس المتحف الوطني العراقي بعد أن تمكنت من جمع الكثير من الآثار الثمينة التي يشير الفيلم في نهايته إلى أنها نهبت بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003. ويحتوي الفيلم على الكثير من الصور واللقطات التي تظهر فيها جيرترود في صحبة الكثير من المسؤولين، من الطرفين البريطاني والعراقي، ومع النساء، وفي الصحراء أثناء رحلاتها المتعددة، وهناك أيضا صور لها مع ونستون تشرشل ولورنس في منطقة الأهرامات بالقاهرة وأمام تمثال أبو الهول.

ومن أكثر عناصر الفيلم بروزا وتأثيرا الموسيقى التي تعتمد على منتخبات من الموسيقى الكلاسيكية التي يبرز فيها دور التشيللو والبيانو والكمان بوجه خاص، مع استخدام بعض التقاسيم العربية القديمة.

ربما يكون من عيوب الفيلم أن الصوت الغالب فيه لطرف واحد يعلي من شأن جيرترود بيل ويقدمها في صورة إيجابية دائما، وكسيدة صاحبة تأثير نافذ كانت تتمتع بتقدير المهيمنين على مقدرات الأمور من البريطانيين في ذلك الوقت، كما اكتسبت ثقة واحترام وحب العراقيين، ولكن الفيلم يهمل إبراز وجهات النظر المضادة التي كانت- ومازالت- ترى أن جيرترود، من أولئك الغربيين المصابين بلوثة الولع بالصحراء، مثل لورنس العرب، دون أن ينفي هذا الولع عنهم كونهم كانوا أدوات استعمارية تساهم في تكريس السيطرة الغربية على بلاد العرب، وخاصة أن جيرترود كانت أيضا المسؤولة عن وضع الخريطة الجديدة التي أدت إلى توزيع إقليم كردستان على أربع دول هي العراق وسوريا وايران وتركيا. ولكن رغم أي نواقص أو سلبيات أو جوانب غائبة، يظل الفيلم درسا عمليا رائعا في تشكيل الفيلم التسجيلي- التمثيلي والمحافظة على توازنه الداخلي، دون أن ينحرف ليصبح فيلما “تمثيليا”، ودون أن يبقى في السياق الجامد للفيلم التسجيلي الذي يعتمد على الإفراط في الشروح والتعليقات وقلة الصور والوثائق.

(الجزيرة الوثائقية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى