حكاية باتر .. للقاصة هداية الرزوق

خاص ( الجسرة )
هناك بين الممرّات الضّيقة و في أثناء اكتظاظ الأزقّة والشّوارع يجرّ عربَته الممتلئة بأنواع الكعك المخبوز بعناية، يمَضي مع عربته النّاطقة بتفاصيل خفيّة تشي بذكريات مفعمة بطعم اللّذة والكفاح، ينطلقُ كلّ فجرٍ ليلتقط رزقه المبعثر في أحياء المدينة الحالمة، ويدفع عربته المغطّاة بناموسيّة صغيرة متّجهاً نحو سوق البخاريّة القابع في وسط البلد بعمّان.
يقضي أبو باتر ذو السّتين عاماً نهاره بابتهاج يزيّن قَسمات وجهه الذي بدت عليه آثار الكدّ ، ويطالع من يقابله بابتسامة عريضةٍ تُفصِح عن البهجة والرّضا ، يتنقّل في جنبات السّوق الواسع الذي يروي حكايات تمازج حضاريّ حيث تنتشر المحلاّت المزيّنة بالمنسوجات القديمة، والمطرّزات الزّاهية، والتّحف النّادرة.
هكذا يمضي أبو باتر نهاره متنقّلاً هنا وهناك، مترنّماً بألطف العبارات: (يلا يلا يلا الي بدو يفطر ويروق ..يجي من هالكعك يذوق) (اترك الي بايدك وسيبه … كلّ واحد يجي يآخذ نصيبو) ( يلا تعالي يا تولاي هالكعك بدو أطيب كاسة شاي) فتهيم الأمّهات بأطفالهن ويقبلن لشراء قطع الكعك المخبوزة باحتراف.
يتعمّد الرّجل السّتينيّ الوقوف أمام دكان الأنتيكة لينتهز فرصة القاء التحية للعمّ كامل الذي سرعان ما يبتسم ابتسامةً عريضةً ويردّ التّحيّة بصوته الحادّ: أهلاً أهلاً أبو باتر طيّب الله صباحك ياربّ تفضّل عنّا يا أصيل فيردّ عليه رافعاً يده بامتنان شديد، ويتابع بعد ذلك أهازيجه الجاذبة مُتفحصّاً كلّ زاوية من زوايا السّوق الكبير، وكأنّه يحاكي أسرار المارّة ويناجي أحلام الباعة، ويطبطب على أحزان كلّ ذي حزن.
يتابع السّتينيّ جولته في أرجاء السّوق ويصل مع عربته إلى أبعد زاوية فيه، ثمّ تبدأ أشعة الشّمس المُحرقة بحزم أمتعتها… عندها يعاود أبو باتر المرور من أمام دكان الأنتيكة وينادي (بشير) ذاك الصّبي ذو العشر سنوات ليضع في كفيّه الجافيْن المتشقّقيْن بعض الدّراهم ويناوله ما بقي من قطع الكعك ويقول له: (امسك هدول يا عمّي الله يبيّض دربك) فيستيقظ الفرح في عيون الصّبي وينير وجهه الشّاحب معلناً عن سعادةٍ تصل أرجاء السّماء، فيعلّق العمّ كامل بمحبّة لا تخفى: بارك الله فيك يا أبو باتر … ربّنا يجبر خاطرك … ويفرحك بباتر ياربّ، فيستقبل أبو باتر تلك الدّعوة بعينين حائرتيْن مستسلمتيْن.
ويتابع مع عربته ما تبقى من نهاره إلى حين مغيب الشّمس، ثمّ يدفعها ويمضي باتجاه المسجد الحسينيّ الكبير، ثمّ لا يلبث أن يرجع إلى منزله المتهالك الكائن في إحدى أزقة المناطق المجاورة مُسبلاً جفْنيه الغلظيْن، متفكّراً بما يجوب مخيْلته من ذكرياتٍ دافئة بعضها سعيدة وبعضها حزينة ممزوجةٍ بالأملّ في المستقبل.
وفي صبيحة نهار مشرقٍ معتدل الحرارة لطيف الأجواء، وبعدما تعالت أصوات الباعة مردّدة ألحاناً عذبة الإيقاع يتفاجأ العمّ كامل بصبيّه بشير يركضُ لاهثاً، وقد بدت على ملامح وجهه هالاتٌ من الذّعر العميق، فيرتعش العمّ كامل صارخاً: يا فتّاح يا عليم خير يا عمّي إيش فيه؟) فيردّ بشير متلعثماً وقد ابتلع الذّعر ما تبقّى من صوته: (عمّي أبو باتر مو موجود!) فيمسح العمّ كامل رأس الصّبيّ قائلا: طوّل بالك عمّي إن شاء الله خير، ويمرّ النّهار ببطء غير معتاد والسّوق كأنّما ينادي بحزنٍ غامضٍ ذاك السّتينيّ الأصيل.
ويمضي الوقت ويتسلّق الظلام أركان السّوق الكبير، فيغلق العمّ كامل باب دكانه، ويأخذ صبيّه ويذهب إلى منزل أبي باتر بعد أن حصل على عنوان سكنه من العطّار درويش، ويمضيان على عجل شديد بعد أن ترامت الظّنون إلى أفكارهما المرتعشة، وبعد مرور أقلّ من عشر دقائق يصلان إلى المنزل المنشود، فيطرقان الباب بذوق شديد.
يفتح أبو باتر الباب وقد ارتسمت بسمته المعهودة ويرّحّب بضيْفيه أحرّ ترحيب، ويدخل الزّائران المنزل المتشقّق الجدران، ويجلسان وكأنّ أمراً مجهولاً قد انساب في عروقهما، فيقطع أبو باتر السّكوت الرّتيب قائلا: حسيّت بدوخة الصّبح قلت أرتاح اليوم… شرّفتوني بزيارتكم وغمرتوني بلطفكم … يا مرحبا فيكم، فيجيب العمّ كامل: قلقنا عليك والله ألف سلامة يارب … إن شاء الله ربّنا يعافيك… والله السّوق كلّه كان يسأل عليك، ثمّ يقف الصّبي بشير ويقبّل رأس أبو باتر بدفء عميق قائلا: الله يشفيك وما يحرمنا منّك ياربّ… عمّي وين باتر نفسي أتعرف عليه؟، فتسود لحظة صمت تُطرق لها الجدران، وتتطاير من عينيّ الرّجل نظرة شوق ولهفة ولوعة ، وترتسم على شفتيه تلك الابتسامة التي يتجمّل بها وهو يبيع السّعادة للجميع في زوايا السّوق المترامية، ويلقي ببصره نحو برواز قديم معلّق على الجدار تستقرّ فيه امرأة ثلاثينيّة واسعة العيّنين، جميلة الوجه، ترتدي ثوباً مطرّزاً، وتحمل فأساً كبيرة، ويقول: كانت تولاي أم باتر حامل بشهرها السّابع … ربّنا يرزقها النّعيم. كانت تحبّ الكعك كثير. أكيد باتر مبسوط مع العصافير، عندها ارتمى بشير في أحضان أبي باتر، وعمّت أحاسيس متضاربة نفوس الجالسين..