«طُبع في بيروت» لجبور الدويهي.. سيَرٌ في حياة مطبعة

حسن نصّور

«طُبع في بيروت» رواية جبور الدويهيّ (مواليد 1949) الجديدة هي، في الأرجح، سيرة مطبّعة. والسيرة، هنا، ثمينةٌ ونادرة إذ إنها تفترق عمّا يُتوسل به عادة في القصّ من أدواتٍ السير. يتأسّس الافتراق على نوعيّة «الثيمة» الرئيسيّة. ثيمةٌ تحيل إلى واقعة تأسِيس مطبعة في بيروت مطلع القرن الماضي. بهذا، يكون، من نافل القول، إن سيرة مطبعةٍ بما تختزنه من هوامش سرديّة مدمجة في مسارب تاريخها فضلاً عمّا تحيل إليه من صلات باللغة والنشر والكتابة عموماً هو هيكل سرديّ فارقٌ بالغ الإغراء.
تقصّ الرواية سيرة مطبعة «كرم إخوان، 1908» على أن واقعة تأسيسها بحدّ ذاته يتحدّد في لحظة تأريخيّة مفصليّة هي انسحاب آخر العثـــمانيين من بيروت. يوكل الأتراك، إلى عبد الحميد الحلواني البيروتي، عامل الطباعة الماهر، نقل مطبعة «دير القديس يوسف للآباء اليسوعيين»، حيـــث يعمل، بالعربات إلى دمشـــق قبيل الانســـحاب. على أنّ تسريع الخروج من بيروت سوف يبقي المطبعة في عهدته. ثمّ ما يلبث أن يشترك مع فؤاد كرم البيروتي ذي الأصل الحلبي في حيازتها.
عمليّاً، يتمحور سياق الأحداث الرئيسيّ سردياً في الزمن الراهن. ونعني في حقبة أحفاد فؤاد كرم والحلواني. والسرد إذ يحيل في تفريعاته، إلى تنويعات ثمينة وممتعة، حَدثية أو سياسية أو تقنية تتعلق بالمطابع وسياقات العمل التحديثيّ عليها أو نَسَبيّة عائلية واجتماعية يتطلبها المبنى السرديّ، فإن السرد، في العمق، يبقى منجذباً إلى مزاج واحد من الشخوص الرئيسيين. وقد لا نبالغ في القول إنّ هذا المزاج السرديّ للنص يكون منقاداً، بدرجة كبيرة، إلى محوريّة الشاب حامل المخطوط الشعريّ «فريد أبو شعر»، الذي بعد لأيٍ ومعاناة مع أكثر أغلب دور النشر، يجد نفسه مصحّحا لغوياً في مطبعة الحفيد «عبدالله كرم». يقع الشاب في غرام زوجة ربّ عمله الفاتنة «بيرسيفون». على أن تورّط أصحاب المطبعة في عمليات تزوير عملة ومن ثمّ انفراط عقد المطبعة يسوق الشاب إلى حكم ملتبس بالسجن ثلاث سنين إذ يتبين للمحقق أن النسخة اليتيمة من ديوان فريد أبو شعر والمطبوعة على نحو سريّ باتفاق بين الزوجة وأنيس الحلواني المشرف هي نسخة تطابقُ أوصافُ ورقها وصفَ ورق العملة. «أخذ والد أنيس المصلحة باكراً عن أبيه. عبد الحميد بدأ بسبك الأحرف، أما مصطفى فامتهن الصف. هو أيضاً بدأ بالعمل عند آل كرم حتى انتفت حاجتهم إليه. كان أعسر وحادّ الطباع، يرتب الحروف في رفوفها وعلبها على طريقته الخاصة. يضع الشمسية منها الدال والذال والصاد والضاد في الرف الأعلى وتحتها في علب موازية والحروف القمرية مثل الحاء والخاء والميم والهاء. هذه بدعته. فكان إذا تغيّب عن العمل وجد الصفّيف البديل صعوبة بالغة في التأقلم مع هذا الترتيب الفريد. (ص. 75).
تتأتى متانة الأسلوب السرديّ عند الدويهي من بساطة القصّ. لكنها بساطة نادرة لا تتوسّل بأي نحو تلك الفانتازيات اللغوية أو الإغراقات الوصفية المبالغة التي تثقل غالباً الشخوص والأمكنة. وهو سرد لا يتوسّل «ديالوغات» طويلة بل ينحاز الراوي فيه إلى ما يستدرجه هذا النمط السردي من إنشاء مسافة آمنة عن الشخوص أو الإدماجات التأريخيّة أو المبنى الروائي عموماً. نتحدث عن قصّ سلس وفصول محسوبة إذا صح التعبير. إنه سردٌ يثرى أيضاً من القدرة الفائقة على إقامة الشخوص والأحداث في مجالات نفسانية يعرف الدويهي جيداً أنها تصلُ المتلقي ومن خلال إحالاتها إلى شبكة لامتناهية من التصورات الشعورية من قبيل تلك النوستالجيات المتجذّرة المتصلة بالمكان، بيروت، وبالاجتماع البشريّ الشديد الثراء والتنوّع في قلبها.
تتبدّى في نصّ صاحب «مطر حزيران» (2006، اختيرت ضمن اللائحة القصيرة لجائزة بوكر في دورتها الأولى) ـ وتحديداً من خلال شخصيّة الشاعر «أبو شعر»، مصحّحِ اللغة العربية ـ تلك الإشارات اللغوية والتطعيمات التراثية (أسماء أعلام ومخطوطات..) التي تحيل إلى مجالات خلفية هي مصادر تساهم بقدر في تشكيل مادّة الدويهي النصيّة. مصادر قد يقصد الدويهي من خلال إبرازها على هذا النحو وعلى الرغم من كون السياق السردي يتطلّبها، إبرازَ معنًى ضمنيّ فيما يتّصل بالهوية الكتابية الروائية باللغة العربية. وأن مصادر النحو وأمّهات الكتب تبقى، في مستوى من المستويات، مصدر ثراء معجميّ من غير الممكن إغفاله في مجمل اشتغال كتابيّ أو في مجمل تحوّل أسلوبي حداثيّ ينحو للتبسيط والتخفيف، في بنية العبارة السردية العربية.
تُبرز أعمال صاحب «شريد المنازل» (2010)، في العمق، تفصيلاتٍ ثمينةً في ما يتّصل بالجماعات اللبنانيّة. تفصيلاتٌ تعمّق الرؤية إلى الصلاتِ المتفاوتة البـــينية لتلك الجماعات (حروب أهلية…) أو من ضمن الجـــماعة نفسها.. إنه نبرٌ سرديّ ذو مسحة تأريخيّة بالغة الخصــوصيّة. نبرٌ يتسلل إلى فكرة الجماعة الطائفية أو الإثنــية من أمكنة أو مجالات تحتية وهامشية قد تعجز الأنواع التعبيرية الكتابية الأخرى عن بلوغها على هذا النحو. فشخوص الدويهي تتعدّى غالباً أوصافَها المباشرة لتشــكل من خلال سمــــة شخصية أو عائلية أو مفردة أو طريقة في الســــلوك ما يشبه شيفرات يحدس القارئ بما تحيل إليه في الحـــقل أو في المجال المــــدينيّ/ القرويّ التأريخي اللبنانيّ من استدراجاتٍ في مخيال الجماعة.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى