“المشبوهون العاديون”

أمير العمري
بعد أكثر من عشرين عاما على ظهوره، ما زال فيلم “المشبوهون العاديون” The Usual Suspects يحتل مكانا بارزا في قائمة معهد الفيلم الأمريكي فقد جاء في المركز العاشر ضمن القائمة التي تضم أفضل أفلام الألغاز البوليسية في تاريخ السينما الأمريكية، رغم أن استقبال النقاد الأمريكيين للفيلم عندما عُرض للمرة الأولى لم يكن جيدا، وعلى سبيل المثال، فقد منحه الناقد الأمريكي الراحل روجر إيبرت، نجمة ونصف من بين خمس نجوم، ووصفه بالغموض وبأنه يستعصي على الفهم، كما ضمّه إلى قائمة أسوأ الأفلام أو أكثر الأفلام التي يكرهها !
رغم ذلك مضى الفيلم ليحقق نجاحا كبيرا، وأصبح بمضي الوقت، من أكثر الأفلام شعبية لدى عشاق السينما خاصة بعد أن أصبح متاحا على الإسطوانات المدمجة في نسخ بالغة النقاء في الصورة. وترك الفيلم تأثيرا كبيرا على الكثير من صناع الأفلام في العالم، خاصة فيما يتعلق بطريقة السرد والحبكة، وبناء الشخصيات، كان أحدثها ذلك الاقتباس الواضح له في الفيلم المصري “ولاد رزق” للمخرج طارق العريان. فما الذي يجعل هذا الفيلم يصمد طوال هذه المدة، أمام أفلام أخرى “كبيرة”، رغم أنه أنتج بميزانية صغيرة، ولم يكن منتجوه يُقدرّون أنه سيحقق كل ما حققه من نجاح؟
عن المخرج
“المشبوهون العاديون” هو الفيلم الثاني للمخرج بريان سنجر، الذي كان أحد اكتشافات مهرجان “ساندانس” السينمائي الذي يقام سنويا في المدينة الأمريكية الصغيرة، ويديره الممثل والمخرج روبرت ردفورد. وكان سنجر قبل قد عرض عام 1993 فيلمه الأول “اطلّاع عمومي” الذي كتب له السيناريو كريستوفر ماكواير، في المهرجان، وحصل على الجائزة الكبرى للجنة التحكيم الدولية.
بدأ بريان سنجر الاهتمام بالسينما وهو بعد صبي صغير، فصوّر بضعة أفلام بكاميرا من نوع السوبر 8 مم، ثم تعلم السينما في مدرسة الفنون البصرية بنيويورك، ثم انتقل إلى لوس أنجلوس لاستكمال دراسته العليا في جامعة جنوب كاليفورنيا حيث حصل على شهادة في الدراسات النقدية. وبعد تخرّجه قرر أن يصبح مخرجا سينمائيا فأخرج فيلما قصيرا بعنوان “عرين الأسد” (25 دقيقة) يروي فيه كيف قرر خمسة من أصدقاء الدراسة الجامعية أن يعودوا إلى صحبتهم القديمة بعد ستة أشهر من تخرّجهم، لكي يكتشفوا أنهم قد أصبحوا بعيدين كل البعد عن بعضهم البعض بحكم اختلاف المشارب والأهواء وتناقض الاهتمامات.
وقد تكلف هذا الفيلم خمسة عشر ألف دولار، وصور بكاميرا من نوع 16مم، وبعد ما حققه من نجاح بعد عرضه في عدد من المهرجانات السينمائية، أتيحت الفرصة لمخرجه سنجر أن يقدم فيلمه الروائي الطويل الأول “اطلاع عمومي” عن سيناريو لكريستوفر ماكواير أيضا، الذي لفت أنظار الممثل كيفن سبايسي بعد أن شاهده في مهرجان ساندانس، فعرض العمل في أي فيلم يصنعه الثنائي ماكوير – سنجر في المستقبل، وكان هو الذي تحمس لسيناريو “المشبوهون العاديون” وقدّمه للشركة التي أنتجته. وقد تكلف إنتاج الفيلم خمسة ملايين ونصف مليون دولار.
ويعتبر المخرج بريان سنجر هو بحق، ابن السينما الأمريكية، أي تلميذ مدرسة سينما الحبكة والعنف والمطاردات والإثارة، لكنه أيضا هاوٍ كبير للسينما، لا يمكنه أن يحيا بمعزل عن السينما الأوروبية الطليعية، خاصة سينما التشويق على الطريقة الفرنسية. إنه خليط من هيتشكوك وفريتز لانج وفرانسوا تريفو. وسنجر هو الذي سيمضي بعد ذلك لكي يصبح واحدا من أشهر مخرجي سينما الأكشن في العالم، فهو الذي أخرج سلسلة الأفلام الشهيرة “الرجال إكس” X Men التي حققت ومازالت تحقق، نجاحا جماهيريا كبيرا.
نسبية الحقيقة
يدور سيناريو فيلم “المشبوهون العاديون” حول فكرة “نسبية الحقيقة”، أي أن ما نراه من السطح قد لا يعكس الحقيقة، وأن ما يرويه لنا شخص ما عن شخص آخر، قد يضيف إلى تعقد اللغز بدلا من أن يشفي غليلنا ويساهم في حل اللغز. من ناحية البناء يخضع الفيلم لمنطق “الفلاش باك” المركب والمتداخل، فنحن نرى الشخصيات تعيش الحاضر والماضي، ما نعتقد أنه الحقيقة، وما يزعم أحد هذه الشخصيات أنه الحقيقة عن باقي الشخصيات. والنتيجة أننا أمام فيلم يطور الطرق المعتادة التقليدية لرواية فيلم “الحبكة” البوليسية مع إسقاطات دينية وسياسية معاصرة.
هنا لعبة “عسكر وحرامية” أو شرطيون ولصوص، لكن الشرطيين قد يكونون لصوصا، كما أن من الممكن أن يكونوا ضحايا لغيرهم. والفساد الكامن هنا وهناك يتم تجاهله أو غض النظر عنه، ليس بسبب الخوف، بل بدعوى استحالة وجوده، أي بإنكار وجوده. والخلاصة كما يقول المخرج بريان سنجر: أن الشيطان ينجح في خداع الناس بزعم أن لا وجود له!
أطراف القصة
في ميناء سان بيدرو بولاية كاليفورنيا، تنفجر سفينة شحن يُعتقد أنها تحمل كمية من الكوكايين تساوي أكثر من تسعين مليون دولار، مما يودي بحياة سبعة وعشرين شخصا كانوا على متنها، وينجو اثنان فقط هما: شخص مجري يدعى “كوفاش”، وملاح السفينة النيويوركي المعوق “كنت” الذي يعقد صفقة مع سلطات التحقيق، يتفق بموجبها على أن يدلي بشهادته ضد المجرمين مقابل تمتعّه بالحصانة. يستجوبه الضابط “كوجان” الذي يعتقد أن وراء عملية التفجير شخصا يدعى “كيتون” كان في الماضي ضابط شرطة قبل أن يتحول إلى الإجرام. ويروي الشاهد كيف التقى بـ “كيتون” قبل ستة أسابيع، بعد أن قبضت عليهما الشرطة التي اشتبهت في تورطهما في اختطاف شاحنة، وقامت بعرضهما ضمن آخرين على بعض الشهود. ومن ضمن المشتبه فيهم أيضا: ثلاثة رجال آخرون منهم خبير في المتفجرات يدعى “هوكني”. ويقترح أحدهم خطة للاستيلاء على أموال خط سيارات تاكسي يستخدمه المهربون في نيويورك بمساعدة رجال الشرطة المرتشين لتسهيل المهمة. وبعد تردد من جانب الضابط السابق والمجرم الحالي “كيتون” الذي يرتبط بعلاقة عاطفية مع محامية تدعى “ايدي”، يوافق بناء على نصيحة “كنت” الذي تُروى القصة من وجهة نظره كشاهد الآن. وتنجح الخطة وتتسبب في فضيحة كبيرة بعد أن تكشف عن فساد شرطة نيويورك.
ينتقل الرجال الخمسة إلى لوس أنجليس لاستكمال عملياتهم الإجرامية، وهناك يعرض عليهم عميلهم المدعو “رد فوت” أي “القدم الحمراء”، سرقة تاجر مجوهرات يدعى “بيرج” لحساب رجل غامض لا يكشف الستار عنه، لكن سرعان ما يتضح أن تاجر المجوهرات هو في الحقيقة تاجر مخدرات، وأثناء السطو على المكان يُقتل هذا الرجل خلال تبادل إطلاق النار. بعد ذلك يتصل بالعصابة رجل غامض يتخذ لنفسه اسما يابانيا هو “كوباياشي” (مقتبسا كم هو واضح من اسم المخرج الياباني الشهير مازاكي كوباياشي) يزعم أنه محام وأنه يمثل الشخص الغامض الذي كلفهم بمهمة قتل “بيرج” تاجر المخدرات والجواهرجي المزعوم.، أي أنهم كانوا يعملون لحسابه دون معرفتهم، ويقول إن اسم الرجل الذي يمثله هو “قيصر سوز”.
الشك والتشكك
هذا الاسم يتردد أيضا في شهادة الشخص الثاني الذي نجا من حادثة تفجير السفينة في سان بيدرو أثناء تحقيقات الشرطة الفيدرالية معه. وهو الاسم اللغز الذي سيدور حوله الفيلم بعد ذلك. هل هو اسم حقيقي أم وهمي، فالضابط يعتقد أن الشرطي السابق “كيتون” هو نفسه “سوز” وأنه دبر مقتله لكي يعيش بعيدا عن عيون الشرطة.
أيا كان الأمر، فالعصابة تقبل تحت ضغوط كوباياشي، المحامي الذي يزعم أنه يعمل لحساب “سوز” تنفيذ خطته الرامية إلى الإغارة على سفينة في سان بيدرو تحمل شحنة مخدرات لحساب خصوم سوز وهم مجموعة من المهربين الأرجنتينيين. وتتم العملية بالفعل، لكن العصابة لا تجد على السفينة مخدرات بل رجلا أرجنتينيا واحدا، ويخشى “سوز” – الذي لا نرى وجهه حتى الآن – أن يعترف عليه هذا الرجل، فيقوم بقتله وقتل ثلاثة من رجال العصابة الخمسة ثم يفجر السفينة ويهرب.
هذه القصة التي يرويها “كنت” في فلاش باك ملتو ومتقطع وطويل بطول الفيلم كله، تمتلئ بكل ما يشغل ذهن المشاهد. إنها قصة شبيهة بالمتاهة، لا حاجة لك إلى التمعُّن فيها أو محاولة استخراج الدلالات والمعاني، فالخروج من حالة إلى أخرى، والولوج من هذا الباب إلى تلك الغرفة يؤدي بالمتفرج لحظة بعد أخرى، إلى الوقوع في متاهة من نوع جديد وفريد. والممثلون الذين ينتقلون من موقف إلى آخر، يساهمون بتنوع أدائهم، في إضافة المزيد من التعقيد إلى ذلك اللعز.
تفكيك الحبكة
إنه عالم وحشي يفيض بالطمع والقسوة، يصوِّره الفيلم متخذا من إعادة رواية التفاصيل التي أدت إلى الحدث الذي يفتتح به الفيلم، وسيلة لتفكيك الحبكة بطريقة عكسية، فالمشاهد يعرف سلفا مصير معظم أبطال القصة بمن فيهم الشاهد الذي يروي الأحداث أو يسترجعها. شخص واحد فقط هو العقل المدبر وراء هذه الأحداث كلها، لا يزال مطلق السراح، وهو اللغز الذي يسعى الضابط إلى حلّه بشتى الطرق، مستبعدا فكرة اليقين الزائف الذي يجعله لا يصدق ما يروى له. ويأتي الحل أخيرا عن طريق زلة لسان من طرف “كنت” الذي يتضح أنه هو نفسه “سوز” أي الزعيم الرئيسي للعصابة رغم ما بدا عليه طوال الوقت أنه أبعد ما يكون عن ذلك بسبب ضعفه وتردده وانزوائه في الظل وعاهته الافتراضية التي سيتضح في المشهد الأخير أنها حيلة للخداع والتضليل. إنه الشخصية الكلاسيكية في الروايات البوليسية، شخصية المجرم الذي هو أبعد ما يكون عن توقُّع القراء.
هناك طابع ديني متعمد في تصميم مشاهد المواجهة بين الضابط والمعترف، كما لو كانت تدور بين قسّ ومذنب يعترف بخطاياه. وهناك تصميم خاص متبع في المشاهد يجعلنا نشعر بالاختناق، ولا تتوقف الحركة في الفيلم بل تتطور وتتواصل، وما بين الزوايا والمنحنيات هناك الكثير من الأفكار التي يمكننا أن نستشفها، عن الخير والشر والتطهر والجشع الذي ينتهي إلى وهم كبير، وعن الثقة المفرطة بالنفس عندما تتحول إلى قيد على صاحبها تحجب عينيه عن رؤية الحقيقة.
بصورة عامة يتميز البناء في الفيلم بالتماسك الشديد رغم منحنياته الكثيرة وتعدُّد شخصياته. وقد اشترك المخرج سنجر مع كريستوفر ماكواير، نفس الكاتب الذي كتب له فيلمه الروائي الأول. وصور الفيلم في 35 يوما في لوس أنجلوس وسان بيدرو ونيويورك، وكان على الممثلين الرئيسيين أن يقضيا معا حوالي أسبوعين في غرفة واحدة هي التي تدور فيها مشاهد الاستجواب. وهي غرفة في مبنى إداري قديم في لوس أنجلوس، هو المبنى الذي استخدمه مصمّمو الإنتاج كمكاتب للشرطة.
جدير بالذكر أن آل باتشينو رفض قبول دور كوجان بسبب تعارض أوقات التصوير مع فيلم آخر كان يقوم ببطولته، وقد أبدى فيما بعد ندمه الشديد على إضاعة هذا الدور منه. أما عنوان “المشبوهون العاديون” فقد استمدّه كاتب السيناريو ماكواير من مقال نشر في مجلة متخصصة في أعمال التجسس.
(الجزيرة الوثائقية)