صابرين فرعون: الأدب العالمي هو الأدب المحلي
تهيمن اللغة الشعرية على نصوص صابرين فرعون السردية بشكل بدا جليا منذ عملها الأول “ظلال قلب”. تقول في هذا الصدد إن “الصبغة الشعرية تهيمن حسيا على العمل الأدبي ككل لأني أعبر في النص الواحد عن العوالم الجوانّية والجو النفسي. كنتُ ومازلت أجمع بين تجربتي الحياتية وتجربة الأخريات وأنا أتحدث بألسنتهن وأصواتهن، معتمدة السرد القصصي في القالب الشكلي للشعر، وأنفي عني تهمة كتابة قصيدة النثر.
فهي نهر جار من التشبيهات والصور واللغة الشاعرية المكثفة، تقف خلف سد منيع يجتهد النقاد على فهم إحالاتها العضوية، وتفقد بوصلتها الموضوعية غالبا وهي تثور على سدّ السجع والموسيقى الداخلية والقافية غير الملزمة للوزن. أضافت الشعرية إلى نصوصي، تحليلا للخطاب اللغوي الذي أوجهه إلى القراء، معتمدة على الإيحاء والتلميح والاعتراف بدلا من الأطباق السريعة الجاهزة ذات المعاني المباشرة التي لا تُشبع العقل والقلب ولا تغذيهما”.
الرواية تهجين
وتوضح فرعون أن الرواية الشعرية نوع أدبي يعتمد على المزيج الشعري والشاعري على حدّ سواء، ولغتها تفرض التفنن والمزاوجة بين التخييل والواقع الإنساني لينعكس كل ذلك على البرانيّ، فلم تقوض الشعرية أو تضعف من رواية “وليمة لأعشاب البحر” لحيدر حيدر، ولا من رواية “من يسكب الهواء في رئة القمر” لبشار عبدالله، ولا رواية “لو كان أبيض” لأحمد بخيت، بل وسعت ونوعت في السرد الحكائي، وجمعت بين الأمثال والأغاني الشعبية والأساطير والغيبيات والمونولوج وتداخل صوت الأنا الساردة مع الأنا الكاتبة والواقعية، ما يلعب دورا في التعرف على ظروف الكتابة واستيعاب عمق العاطفة المسيطرة على اللغة والبحث في البعد الإنساني.
وتتحدث فرعون عن روايتها “قلقة في حقائب سفر” قائلة “الرواية تفتح مجالا لتعددية أساليب الخطابة وتهجين الأنواع الأدبية، وبذلك هي صديقة لكل قارئ تدعوه إلى صحبتها مع اختيار مقاطع تلامس شغفه، بمنأى عن صرامة بعض النقاد الذين يبحثون في الأصول والقواعد وهم يتصدون لصوت الحداثة، ويكتفون بالنهج التقليدي للعمل الأدبي”.
وعن الأدوار المنوطة بالعمل الأدبي والتي يضطلع بها، تلفت فرعون إلى أن الوضع الراهن من حروب طائفية وسياسة عالمية، خلّف آثارا تعقد الألسنة وتدعو إلى الهزائم النفسية والفردية والجمعية، مما يجعلنا نضع القضايا الإنسانية وتاريخ الشعوب تحت المجهر، لتشريحها بعدسات التأمل.
في الكتابة، نحفر في الجدران كوة لتتسع رقعتها وتكسر الحواجز التي تقيد الروح من فهم كنهها ووجوديتها والهدف الذي خُلقت من أجله، نعمل على الحفر لأعمق بُعد ممكن من أجل استنباط الأحكام العقلية وترك بصمة دلالية على هدم الجدران وتفكيك عقد الظلامية. ويحتاج الأديب إلى أن يكون على دراية وإلمام بحيثيات روايته ومثقفا قارئا، فلا يعقل أن تكون الرواية التاريخية مثلا تحتوي على فانتازيا وافتراء وتزييف مكاني وزماني، أو قصيدة حداثية تنتهج الوقوف على الأطلال.
الرواية الشعرية نوع أدبي يعتمد على المزيج الشعري والشاعري على حد سواء، ولغتها تفرض التفنن والمزاوجة بين التخييل والواقع
وعن سبب ميلها إلى استعمال الأسلوب الرمزي في السرد بشكل قد يصعّب من فهم النص على الكثير من القراء، تشير فرعون إلى أنها تأثرت بشدة بدراستها للمذهب الرمزي، موضحة “كأنه مغناطيس جذبني من القلب إلى العقل، فتتشابك اللغة الحسية بالفكرة بسبب تراسل الحواس، وقد سرت المنظومة الرمزية في غالبية نصوص «ظلال قلب» بصورة سوريالية، فكانت تحتاج من القارئ أن يقف عند عباراتها وإعادة قراءتها مرات عديدة لأن عوالم اللغة غير المطوّعة مفتوحة على تأويل المعنى والمشهد النصي كاملا”.
وتستطرد “ليس في خاطري الكتابة لمجموعة من القراء على أنهم النخبة، فأنا أرى أن لكل قارئ توجهه، وأعترف أن اللغة من طوعتني ولستُ من طوّعها في «ظلال قلب»؛ في كتابيّ «مرايا المطر»: نصوص سردية، و«قلقلة في حقائب سفر»: نوفيلا، اجتهدتُ أن تكون اللغة أكثر وضوحا بعيدا عن أسلوب الجاحظ الاستطرادي، ومازلت أعمل على توضيح المعاني والرسائل”.
وفي ما يتعلق بالمحلية في الأدب، تنوه ضيفتنا بأن الأدب المحلي، سواء على الصعيد الفلسطيني أو العربي، يحتاج فرصة لأن يقدم نفسه في كل عصر بشكل يواكب التطور الحضاري، مبينة “قرأت مرة أن العالمي هو المحلي، وحقيقة أوافق أن هناك مبدعين وضعوا أصابعهم على الجرح ولم يكونوا يخيطونه ليرتقوه بقدر ما عملوا على تطبيب وإزالة عوالق النزيف.
فقد كتبوا عن الإنسانية المنسية، وعن الأصالة والتجديد والعصرنة والوطن دون انحياز لقطر عربي دون آخر، يكتبون عن الفرق بين الحمل الكاذب والحمل الطبيعي الحقيقي، لمفاهيم تسمو بالفرد وتنطلق نحو جسد عربي مكتمل البنية، لا يكون المولود خداج يحتاج إلى حاضنة حتى يكتمل نموه الخُلقي والخَلقي.. لا أتوقع أن تكون المحلية متناسخة عن العالمية أو تحذو نحو صنع ملحمة شبيهة بجلجامش أو المهابهارتا والرامايانا أو الإلياذة والأوديسة، وأتوقع أن تمتن أساساتها في الأدب”.
وتضيف “الحقيقة أن البعد الإنساني دافع ومُسبِب كما هو نتيجة للكتابة، فالقراءة فعل صيرورة دائم ومستمر للكتابة، انقطاعهما كأدب محلي يعني ضياع ومحو لمكتباتنا العربية منذ مكتبة الإسكندرية حتى يومنا هذا، واختفاء لأجناس مثل الأدب المقارن، لأننا ببساطة نعيد تدوير موروثنا الحضاري في تلك الحالة ونعود إلى المشافهة التي سيضيف إليها كل فرد توابله”.
الرواية تفتح مجالا لتعددية أساليب الخطابة وتهجين الأنواع الأدبية
مرآة الكتابة
وعن الهواجس التي تحرك قلمها توضح فرعون “يعذبني رفع شعارات كالديمقراطية والحرية للمرأة على سبيل المثال، وبداخل الكثير من البيوت صور مغايرة، صور ممتدة إلى القبلية الجاهلية بالضرب والشتيمة وادّعاء غسل الشرف، من تلك التي لم يُفرق رحمها بين ذكر أو أنثى، بل احتوى الجنين دون عنصرية لجنسه، تلك التي تتفوق بنتائج مُشرفة في الثانوية العامة والجامعات وتنافس في سوق العمل وتعود إلى بيتها وتقوم بواجب الأمومة والزوجة، وتلك التي تجلد نفسها ولا تتجرأ على طلب الطلاق، وهو أبغض الحلال، إن خانها زوجها أو أمرها بالطاعة العمياء، لأن مجتمعها سيراها بعين المطلقة المنبوذة، وتلك التي تحتضن وسادتها ليلا وقلبها يتقطع ممن أكل ميراثها أو رماها في آخر عمرها.
تهزني تلك المرأة التي ما توانت عن التضحيات ولم تنتبه في طريقها لليافطة التي كُتب عليها؛ أنتِ الأضحية التالية، إن ضعفتِ واختبأتِ وقررتِ السكوت على الدوام كشيطان أخرس”.
وتتابع فرعون “بالنسبة إليّ، الكتابة هي حقيقة الذات، وانعكاسات لحكايا وتجارب الأخريات، أنتظر منها الإنصاف بلسان الحقيقة، وألّا تتم قراءة نصوصي أدبيا فقط، وإنما يكون التعامل مع الطرح عقلانيا وبمنهج البحث العلمي في الكثير مما يتم طرحه. لقد هذبت الكتابة ذاتي وهدمت جدرانا فُرضت عليّ وكنت أعجز عن الوقوف أمامها و«الشخبطة» عليها لأن لي حقوقا كما عليّ واجبات”.
وتختم صابرين فرعون مشيرة إلى أنها تنتهي في الوقت الراهن من مخطوط عمل جديد لتضعه في طور المراجعة، فيما ستصدر لها قريبا مجموعة قصصية بعنوان “جريمة نصف زرقاء” عن دار فضاءات للنشر والتوزيع بالأردن.