الفقي وسلامة وعرب: خطر التهميش يطارد اللغة والثقافة العربية

محمد الحمامصي

الثقافة العروبية هي إحدى الثقافات الإنسانية المعبرة عن رقعة كبيرة في جغرافية العالم، لما لها من أثر كبير في النهوض بالثقافة الإنسانية من خلال تفوقها في العلوم والمعارف والآداب خاصة في تلك الفترات التي شهدت فيها العالم الغربي عصور تقهقر وإظلام خلال حقبة العصور الوسطى، فمن أين استمدت الثقافة العروبية مصادر قوتها وإلى أين تتجه في وقتنا الراهن؟ وما موقفها من التطورات التكنولوجية والعلمية الهائلة التي يشهدها العالم؟ وهل لا نزال بحاجة إلى التمسك بثقافة العروبة والقومية العربية؟ وما الموقف من القومية العربية وإمكانيات تشكلها مرة أخرى؟ ووضع المنظومات التعليمية في العالم العربي؟ وغير ذلك من التساؤلات التي طرحتها ندوة “الثقافة العربية من أين؟ وإلى أين؟” التي جاءت في إطار فعاليات معرض الشارقة للكتاب في دورته الـ 35 وشارك فيها كل من المفكر والسياسي المصري د. مصطفى الفقي، والمفكر اللبناني د. غسان سلامة ود. صابر عرب وأدارها الكاتب الإماراتي محمد خلف.

بداية رأى د. غسان سلامة أن هناك فارقا كبيرا بين ما يسمى الفكرة العربية وما يمكن تسميته بالسياسة العروبية، وقال “الفكرة العربية فكرة حديثة نشأت في القرنين الماضيين في بلاد الشام ومصر خصيصا وانطلقت وقامت على أفكار بسيطة لكنها أفكار في جوهرها ثورية لأنها ليست فقط فكرة حديثة، ولكنها فكرة محدثة بمعنى أنها تسعى إلى تحديث المجتمعات العربية، هذه الفكرة تقوم على أفكار بسيطة أننا نتكلم لغة واحدة، لدينا تراث مشترك، لدينا عدد كبير من المرجعيات الفكرية نلتقي حولها ولدينا أيضا مستوى عال من التعاون، التعاون البسيط الذي ليس بحاجة إلى أي تدخل حكومي، بمعنى أن كتابا يصدر في المغرب يمكن أن أشتريه في معرض بالشارقة، أو أن أغنية تنطلق من بيروت تصبح مشهورة في أي بلد عربي، أو أن فيلما مصريا يصبح معروفا في كل العالم العربي، لأن هناك تواصل عبر الحدود يتم بصورة تلقائية بسبب هذه المكونات المشتركة بيننا، وكل المحاولات ـ وهي كثيرة ـ التي جرت في القرن الماضي وبدايات هذا القرن لنبذ فكرة الوحدة العربية باءت بالفشل، لأن هذه الوحدة راسخة في اللغة والثقافة والتواصل التلقائي عبر الحدود مهما كانت القرارات السياسية والتحولات الأيديولوجية، ثم هناك ما أسميته القومية العربية أو السياسة العروبية وهي محاولة الاستفادة من الفكرة العربية التي جرى توظيفها في مشاريع سياسية لم تلق النجاح الذي توقعه كثيرون، كان لها ساعة ذهبية في الخمسينيات والستينيات، ثم تلاشت إلى حد كبير بسبب الخلافات التي عصفت بالبلاد العربية منذ ذلك الحين.

من أسوأ ما حصل في الفترة الأخيرة هو الخلط بين الأمرين والقول إن فشل التكامل العربي أو التعاضد العربي أو التعاون السياسي العربي يؤدي أيضا إلى انتهاء أو اندثار الفترة العربية. لا، أنا أقول إن الثقافة العربية موحدة بطريقة صلبة لدرجة أنها تمكنت، لأنها تلقائية وشعبية وبطبيعتها عابرة للحدود بين الأقطار العربية، تمكنت من أن تستمر، وهذا المعرض برهان عليها، تمكنت أن تستمر رغم الاختلافات السياسية والحدود بين الأقطار، لأنها لم تنشأ بقرار حكومي لكي يلغيها قرار حكومي آخر، إنها نشأت بصورة طبيعية وتلقائية في وسط أناس يتكلمون نفس اللغة ولديهم نفس التراث”.

وأشار د. سلامة إلى أن هذه النشأة لم تكن سياسية، فعندما قام البستاني واليازجي بوضع أول قواميس عربية وظهور الصحافة الشامية في مصر، نشأت ثقافة في القرن التاسع عشر من خلال حركة النهضة العربية، ثم تسيست من خلال ساطع الحصري والتيار الناصري، أي بعد حوالي قرن من انطلاق الفكرة العربية كمعطى ثقافي تسيست في منتصف القرن العشرين في حين أنها انطلقت ثقافيا في منتصف القرن التاسع عشر أي قبل هذا القرن.

وقال إن هناك حركات قومية وحركات دينية لهما مرجعيات مختلفة إلى حد ما، فالصراع سياسي، وهذا لا يمس الثقافة العربية، الثقافة العربية اليوم تهددها خلافات أخرى غير السياسيات العربية، الثقافة العربية متينة ومتأصلة فينا، وهي لغتنا، ولا أخاف عليها من تصارع الأيديولوجيات القومية والدينية ولا التحولات السياسية، أخاف عليها مثلا من الثورة التكنولوجية، نحن في خضم ثورة تكنولوجية لا سابق لها، تعطي مفاعيل خطيرة لحياتنا اليومية من الهاتف إلى التليفزيون إلى الكمبيوتر وتخترع لغات جديدة افتراضية، هنا الخطر الكامن على تهميش الللغة العربية من هذه الثورة التكنولوجية ألا تكون جزءا من هذه الثورة.

وشدد د. سلامة على أن اللغة العربية لغة ثابتة ولا خوف عليها من السياسة، العرب لم يتفقوا على أمور سياسية منذ زمن طويل، إن لغتنا وثقافتنا لديها مناعة قوية جدا أمام الخلافات السياسية حتى حين نشتم بعضنا البعض نشتم باللغة العربية.

وكل ما أخاف منه هو تهميشها من خلال الثورة التكنولوجية الهائلة، كون مفاعيلها في عقدين من الزمن أكبر من الثورة الصناعية في قرنين من الزمان، فقد عملت على تسريع التواصل بين الناس وتخفيف كلفة هذا التواصل، ولأنها تمكنت من أن تفرض إلى حد كبير نوعا من الارتباط بين اللغات في شبه لغة عالمية، وهذا قد يهمش اللغات التي لا تدخل في صلب الثورة التكنولوجية، لذلك أعود وأؤكد أنه لا خوف على اللغة العربية وثقافتها من الخلافات السياسية لأنها منيع، لكن أخاف من تهميشها في مجالات التدريس والكتب العلمية ومجالات التواصل الإفتراضي على مختلف وسائل التواصل الجديدة التي قد تكون أنتجت منتجات أخرى عند اللقاء بعد عام من الآن.

وهذا التحدي تشهده معظم اللغات ما عدا اللغة الإنجليزية، اللغة الصينية والاسبانية والفرنسية وغيرها من اللغات باستثناء الإنجليزية تخاف من هذا الأمر، إن أولادنا الآن يتكلمون نوعا من اللغة الإنجليزية الركيكة بديلا عن العربية حتى أصبحت لغتهم العربية ركيكة أيضا بسبب قلة الاستعمال في وسائل الاتصال الحديثة.

وأكد د. مصطفى الفقي أن اللغة لا يمكن أن تكون عائقا أمام مسيرة التقدم، ولا ينبغي أن ننسى أن اللغة هي هذه الأمة منذ فجر التاريخ وظهرت قوافل المفكرين والمخترعين والمكتشفين الذين أسهموا في الحضارة الأوروبية، هل يمكن أن نقول إن اللغة الصينية سوف تكون حاجزا بين انطلاق الصين في العالم، كلام غير دقيق على الاطلاق، لأن فكرة العروبة ـ لا بد أن تستقر في ذهننا ـ ليست رداء نرتديه حين نشاء ونخلعه حين نريد، إنها هوية وقضية ثقافية بالدرجة الأولى، لذلك عندما كانوا يتكلمون عن عوامل قيام القومية العربية ويذكرون فيها الدين وغيره، كنت أرى في ذلك نوعا من الشطط، الأصل في الفكرة القومية هو العامل الثقافي.

ولهذا أذكر أنني كنت في بيروت في مؤتمر لمؤسسة الفكر العربي عام 2006 وكان الأخ تمام سلام حاضرا كوزير ثقافة ودعوت يومها إلى ضرورة أن يتبنى العرب الدعوة إلى قمة ثقافية عربية، ففي رأيي أن المشكلة الأساسية لدينا كعرب مشكلة ثقافية، وسلوك إنساني، وقدرة على الاندماج في المجتمع الحالي، ليست أبدا مشاكل سياسية أو اقتصادية ـ هي موجودة ـ نحن أقمنا قمة اقتصادية عربية فلماذا لا تدعو إلى قمة ثقافية عربية خصوصا أن العامل الثقافي الآن هو عامل محوري في العلاقات الدولية، يكفي أن الأفكار الثلاثة الرئيسية التي صدرها الغرب إلينا في العقدين الأخيرين ذات طابع ثقافي: العولمة، صراع الحضارات، والحرب على الإرهاب، هل نتخيل بن لادن في الصحاري وجروج دابليو بوش في البيت الأبيض، انظر للمسافة الفكرية، اختلاف ثقافي وسلوكي ومعرفي وفي الفهم.

وبالتالي العامل الثقافي هو العامل الحكم في العلاقات الدولية. العرب لديهم ثقافة ثرية ثراء كبيرا، ولغتهم العربية لغة طيعة، لكن هذا لم يؤد تاريخيا إلى الاندماج المطلوب، إن العرب من فرط ما لديهم من أسباب الاندماج والتقارب لا يتقاربون، وهذا غريب جدا، لقد حضرت اجتماعات للاتحاد الأوروبي، إنهم يتحدثون من خلال 11 كابينة ترجمة ومع ذلك هناك كيان اسمه الاتحاد الأوروبي، إننا لم نستطع حتى الآن أن نحدث نوعا من التكامل العربي، ومن ثم فهناك بالفعل فارق بين الفكرة العربية والسياسات العروبية، هذه لن تجني على هذه، تراجع التضامن والتعاون العربي المشترك لا يمكن أن يكون خصما من مفهوم الفكرة العربية، القومية العربية لم تكن قومية دينية.

وحول الصراع بين الدين والقومية، أكد د. مصطفى الفقي أن المد الديني في المنطقة العربية كان على حساب المد القومي، وقد جرت محاولات للمصالحة لم تكن توفيقية بقدر ما كانت تلفيقية، لأنه لا يمكن أن يحدث هذا، انهار المد القومي بانهيار الناصرية وسقوط الأنظمة التحررية، حدثت ردة كبيرة في المنطقة العربية، والذي ملأ الفراغ مباشرة هو التيار الديني، وهنا مكمن الخطورة التي حدثت، لأنه خيل للبعض أن هزيمة 1967 كانت عقابا من الله على الاشتراكية وليسار والتقدمية.. إلخ، بالعكس طلب من الرئيس عبدالناصر ألا يظهر في مناسبة عامة بعد نكسة 1967 إلا في مناسبة دينية وفعلا اصطنعت مناسبة مولد السيد زينب رضي الله عنها ليظهر عبدالناصر كأنها عودة إلى الله. وهكذا بدأت تتم عملية الاحلال التدريجي للتيارات الدينية الاسلامية المتطرفة كبديل للتيار القومي الذي يجمع ولا يفرق بطبيعته.

وشدد الفقى على أن عدم إدراك الطفل العربى لهويته ولغته العربية، هو نتيجة تراجع النظام التعليمى العربى ومصر نموذجا، لأنها أكثر الدولة العربية معاناة من تهاون المؤسسة التعليمية فيها، على الرغم من أنها كانت دولة رائدة، كانت السلعة الأساسية التي تصدرها حتى للأشقاء العرب تتمحور في الثقافة والفنون والتعليم، ولكن الآن الأمر تراجع، والسبب، هو أن التعليم العام الذى كان يدرس اللغة العربية لم يعد هو المسيطر، فأصبحنا لدينا تعددية في الأنظمة التعليمية بشكل مزعج، فهناك التعليم العام والخاص والأجنبى والدينى، وبالتالي لم يعد هناك تركيز على هوية التعليم، فكل أسرة تريد أن تعلم أولادها تعليما جيدا تقرر أن ترسلهم للمدارس الأجنبية، فاللغة العربية بالنسبة لها لا تعبر عن الرقى، فالرقى لديها هو التحدث باللغة الإنجليزية أو الفرنسية، وهذا يرجع إلى أننا لم نربط بين التعليم الجيد واللغة العربية.

وأوضح أن فكرة الأمة كانت في مصر تجعل الكل يتساوى في التعليم والجندية، فنجد في الفصل الواحد أولاد الأغنياء والفقراء والمسحين والمسلمين، وهذه هي البوتقة التي تصنع أمة، ولكن هذا كله اندثر، فلم تعد اللغة العربية هي عمود الخيمة، في حين أنها أحد اللغات الرسمية السبع في العالم، كما أن منظمة اليونسكو تحتفى بيوم اللغة العربية، ولكن في المقابل لم يعد العرب يشعرون أن التعليم باللغة العربية لا يدل على الرقى والتحضر، والسبب هو اكتساح اللغة الإنجليزية لدرجة أنها تفوقت على اللغة الفرنسية لغة الآداب والقانون والفلسفة، كما أن لغة الانترنت الأساسية هي اللغة الإنجليزية، فحسمت الأمر لصالحها، فأصبحت لغة عالمية، أما اللغة العربية في هذا المضمون لم تجد لها مكانة، والسبب الرئيسى الذى يجب أن نركز عليه، هو تهاوي قيمة العملية التعليمية في العالم العربى والنموذج المصرى يدل على هذا تماما.

ورأى د. صابر عرب أن الثقافة العربية بمقوماتها الثقافية واللغوية والتراثية والدينية كانت دائما هي العمود والبنية الحاضنة الحصينة لهذه الثقافة العروبية، فالثقافة العربية يفهم أبناؤها لغة بعضهم البعض رغم اختلاف اللهجات، وتم الحفاظ على اللغة كوعاء ثقافي، وأظن أن من حفظ لنا هذه اللغة هو التراث الديني ممثلا في القرآن الكريم الذي يمثل عاملا أساسيا. الثقافة هي الهوية.

وتساءل د. عرب هل ستستمر اللغة العربية كلغة قادرة على احتواء العلوم والمعارف الحديثة؟ وأظن أنها ستستمر شريطة أن تعمل المؤسسات الأكاديمية والبحثية والعلمية على مواكبة اللغة للتطورات الهائلة في مختلف العلوم. لكن بشكل عام ستبقى اللغة العربية ما بقي العرب في كل مكان بقدر اهتمامهم بمؤسساتهم العلمية.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى