“توشيرو ميفوني” .. الساموراي الأخير

أمير العمري

من المعالم التي أصبحت راسخة في المهرجانات السينمائية الدولية، القسم الذي يخصص لعرض الأفلام الحديثة عن السينما، عن العمل السينمائي، عن ذاكرة السينما، عن كبار المخرجين وأفلامهم، عن الممثلين من النجوم الكبار الذي رحلوا عن حياتنا بعد أن تركوا بصماتهم مطبوعة على ذاكرة أجيال من عشاق الفن السينمائي. ومن هذه النوعية الأخيرة ظهرت على سبيل المثال، أفلام عن مارلون براندو وانجريد برجمان ومارشيللو ماستروياني وبروس لي وجاكي شان وجيمس دين وجاري كوبر، وشابلن وبستر كيتون وغيرهم.

مهرجان لندن السينمائي عرض في دورته الـ60 فيلما جديدا جاء هذه المرة، عن توشيرو ميفوني، الذي يعد أشهر ممثل سينمائي ظهر في اليابان، وأكثر الممثلين الآسيويين تحقيقا للنجومية والشهرة العالمية. وقد صعد ميفوني الذي ولد عام 1920، سلم الشهرة على يدي المخرج الياباني المرموق أكيرا كيروساوا (1910- 1998) عندما اتجه في أوائل الخمسينات إلى إخراج أفلامه الشهيرة عن الساموراي، أي المحاربين اليابانيين الشرفاء من التاريخ الاقطاعي الياباني الذي امتد من القرن الرابع عشر إلى القرن التاسع عشر.

ميفوني الذي توفي عام 1997 عن 77 عاما، عمل في 179 فيلما، منها 16 فيلما مع كيروساوا، أشهرها “راشومون” (1950) الذي فاز بالأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا، و”الساموراي السبعة” (1954)، و”عرش الدم” (1957)، و”يوجيمبو” (1961) الذي حصل عن دوره فيه على جائزة أحسن ممثل في مهرجان فينيسيا، و”ذو اللحية الحمراء” (1965)- الذي حصل على جائزة أخرى مشابهة من مهرجان فينسيا، وكان آخر فيلم لميفوني من إخراج كيروساوا. ولم يتوقف ميفوني عن القيام بدور الساموراي في أفلام لمخرجين آخرين غير كيروساوا مثل “ثلاثية الساموراي” التي أخرجها هيروشي إناجاكي، ولعل شخصية الساموراي التي اشتهر بها هي الشخصية التي استطاع تطويرها، وأضفى عليها ملامح من الطرافة والفكاهة أيضا، مع قوة هائلة وقدرة غير عادية على الحركة وأداء المشاهد الخطرة التي كان يرفض تماما أن يقوم بها غيره من البدلاء.
الفيلم الوثائقي الجديد بعنوان “ميفوني.. الساموراي الأخير”، وهو من إخراج المخرج الأمريكي- الياباني، ستيفن أوكازاكي، الذي استعان بالممثل الأمريكي الشهير “كينو ريفز” لقراءة التعليق الصوتي على مشاهد الفيلم بصوته، والربط بينها، وإضافة بعض المعلومات الهامة في سياق الفيلم. ويتضمن الفيلم مادة مصورة كثيفة من أفلام ميفوني، مع كيروساوا وغيره من المخرجين، والكثير من مقاطع الفيديو المنزلية التي صورت لكيروساوا داخل منزله مع عائلته، خاصة ابنه هسياو كيروساوا (71 سنة) الذي يظهر في الفيلم ليروي الكثير من الذكريات عن والده وعن علاقته بتوشيرو ميفوني، وكيف كان الأخير يأتي أحيانا بسيارته الحمراء المكشوفة، وهو ثمل، لكي ينادي على كيروساوا.. يسبه ويلعنه.. إنها علاقة الحب والحنق، الحب الشديد لكون كيروساوا هو الذي كان مسؤولا عما حققه ميفوني من شهرة عالمية، كما أنه أصبح أيضا هدفا لنقمة ميفوني بعد أن تخلى عنه.. أو بعد أن انفصل الاثنان عن بعضهما البعض، وهي مشكلة يبحثها الفيلم مع الكثيرين ممن عاصروا الرجلين، دون أن يصل إلى سبب ذلك الانفصال الذي وقع بلا عودة في منتصف الستينات.

يتضمن الفيلم أيضا مقابلات مع تاكيشي ميفوني (من مواليد 1955) إبن الممثل الكبير، الذي يروي الكثير عن والده ونزواته وولعه بالسيارات والقيادة السريعة على طريقة جيمس دين (الذي توفي في حادث تصادم) كما كان مدمنا على الشراب مما تسبب في طلاقه من زوجته. ويستعين المخرج بالكثير من الصور الفوتوغرافية لكيروساوا وراء الكاميرا مع ميفوني، وكذلك للممثلات اللاتي عملن مع ميفوني مثل تاسويا ناكادي وكيوتو كاجاوا، ويوزو كاياما، وهن تظهر جميعهن في هذا الفيلم بعد ان تقدم بهن العمر، يروين الكثير من الطرائف والمفارقات التي كانت تقع أثناء التصوير، وهي مفارقات تكشف عن أسلوب وشخصية ميفوني وقوة إصرره على النجاح، وكيف أنه كان يقوم بتنفيذ تعليمات كيروساوا بالحرف الواحد، فقد كان معروفا عن كيروساوا أنه يطلب من ممثليه الطاعة العمياء، وكان يطرد أي ممثل لا يلتزم بتعليماته، ومن هؤلاء يظهر في الفيلم ممثل ياباني اشترك مع ميفوني في “الساموراي السبعة” في دور صغير، وهو يروي كيف أنه خرج عن التعليمات ذات مرة وابتكر في طريقة السقوط بعد اصابته اصابة قاتلة، وكيف أن هذا الأداء لفت نظر كيروساوا فأثنى عليه بدلا من أن يطرده. ولكن علاقة كيروساوا بميفوني سرعان ما تطورت ليصبح الممثل الوحيد الذي سمح له كيروساوا بالابتكار والإبداع بغض النظر عن التعليمات أو النص المكتوب.

في أحد مقاطع الفيلم يقول التعليق الصوتي إنه قبل ميفوني “لم يظهر ممثل غير أبيض، يتمتع بالشهرة والبطولة السينمائية، وكان هذا بالطبع قبل أن يظهر بروس لي وشافت وجت لي وأنطونيو بانديراس”.. ويجب أن نضع هنا علامة التعجب بشأن بانديراس، إلا أن يكون المقصود “غير أمريكي”!

ومن الشخصيات البارزة التي تظهر في الفيلم شخصية “كانزو أوني” المدرب الذي كان يقوم بتدريب الممثلين، ومنهم ميفوني، على مشاهد المبارزة بالسيوف، وقد اشترك أيضا في أدوار صغيرة في أفلام الساموراي. ويذكر التعليق أنه لقي حتفه على يد ميفوني 150 مرة، في الأفلام بالطبع. ووجود أوني في الفيلم يوفر كنزا من المعلومات، خاصة مع توفر الكثير من اللقطات والمقاطع التي تصور التدريبات على الأداء، وقد استخدمها المخرج في الفيلم ومزجها مع اللقطات الحقيقية التي ظهرت في الأفلام الكلاسيكية التي يجري الحديث عنها.
تاريخ السينما اليابانية

ومن أفضل فصول الفيلم الفصل الأول الذي يروي بدايات السينما في اليابان من خلال الكثير من المقاطع النادرة من الأفلام الصامتة، وكيف تطورت الصناعة، ثم القسم الخاص باستديو توهو السينمائي الشهير (الذي تأسس عام 1932) الذي أنتج معظم أفلام كيروساوا وأشهرها، ثم الجزء الذي يشرح فيه بعض ضيوف الفيلم، كيف قام كيروساوا بالتعاون مع ميفوني بتطوير النوع الخيالي المعروف في اليابان باسم “شانبارا” Chanbara أي أفلام المبارزات بالسيوف في اليابان.
نشاهد في الفيلم المشهد الشهير في نهاية فيلم “عرش الدم” لكيروساوا (المأخوذ عن مسرحية “ماكبث” لشكسبير)، عندما يتمرد جيش الملك الشرس عليه ويرفض جنوده الاستجابة لتعليماته بالهجوم على جيش الأعداء متهمين إياه بالخيانة، ثم يبدأون في تصويب سهامهم في اتجاه الملك الذي يصاب بالرعب الشديد، وهو يجد نفسه محاصرا لا يستطيع الفكاك بينما تنهال عليه السهام من كل صوب وحدب. ويروي أحد مساعدي كيروساوا كيف أن الذين قاموا بأدوار الجنود وكانوا يقذفون بالسهام في اتجاه توشيرو ميفوني (الذي قام بدور الملك)، كانوا طلابا مبتدئين في معهد الفنون ولم يكونوا مدربين على استخدام الأسهم، وكان التصوير يتم بشكل مباشر ودون أي خدع سينمائية، وكان يمكن بالتالي، أن يلقى ميفوني مصرعه إذا ما اخترق أحد السهام رأسه!

مرثية

يمكن اعتبار الفيلم مرثية لممثل عظيم، حيث يتابع الفيلم مسار حياته، سواء على صعيد الفن أو على الصعيد الشخصي، ويرصد صعوده كنجم فوق العادة في اليابان ثم انتقاله إلى هوليوود للعمل في بعض الأفلام مثل “1941” الذي أخرجه ستيفن سبيلبرج، و”التحدي” لجون فرانكنهايمر، و”الجحيم في المحيط الهادئ” لجون بورمان، ثم أفول نجمه في أواخر حياته رغم أنه ظل يعمل حتى عام 1995 ولكن دون أن يصل قط إلى ما سبق أن حققه من نجاح مع كيروساوا. وقد أصيب في الفترة الأخيرة من حياته بجلطة، جعلته يعتزل الظهور العام طيلة السنتين الأخيرتين إلى أن توفي عام 1997.

من الشخصيات السينمائية الشهيرة التي تظهر في فيلمنا هذا المخرج الأمريكي ستيفن سبيلبرج الذي يقول إنه لم يجد ممثلا آخر يتمتع بنفس الحيوية التي كان يتمتع بها ميفوني. وإنه كان يعرف كيف يوظف خبرته الشخصية من أجل الدور، اما المخرج مارتن سكورسيزي فيقول إن ميفوني ترك تأثيرا كبيرا على كثير من الممثلين حتى في السينما الأمريكية نفسها، ومن هؤلاء على سبيل المثال، كلينت إيستوود الذي استوحى شخصية المحارب الصامت الساخر من ميفوني. ومن المعروف بالطبع أن الفيلم الذي كان سببا في شهرة إيستوود وهو فيلم “من أجل حفنة دولارات” لسيرجيو ليوني، مقتبس عن فيلم “يوجمبو” الذي أخرجه كيروساوا وقام ببطولته ميفوني، كما اقتبس فيلم “العظماء السبعة” من فيلم “الساموراي السبعة”.
ليس من الممكن النظر إلى فيلم “توشيرو ميفوني: الساموراي الأخير” باعتباره فيلما شاملا جامعا عن أفلام ميفوني أو أنه يسعى لتناول هذه الأفلام (وهي كثيرة) بالتحليل، أو يستعين بالنقاد لالقاء الأضواء عليها، فهو ليس فيلما عن قيمة أفلام ميفوني، ومن يبحث عن هذا الجانب في فيلم كهذا سيصاب بالإحباط، لكنه أساسا، فيلم عن مشوار حياة ومسيرة عمل ميفوني وكيف استطاع أن يحقق النجومية وأن يترك تأثيره الكبير على سينما بلاده، والسينما العالمية، ولاشك أن في العودة إلى شخصية ميفوني، محاولة لاستعادة صفحة ناصعة من تاريخ السينما اليابانية.

(الجزيرة الثقافية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى