روائي بحريني يوثق في ‘جراندول’ تاريخا ‘مسكوتا’ عنه

سعد القرش

فتيان في الصف الأول الثانوي تحملهم مغامرات ليلية إلى عالم سريّ، يجرّبون فيه الحرية الشخصية، ويتخففون من قسوة مدير المدرسة. في حيّ «جراندول» المغلق على مانحات اللذة السرية وطالبيها برعاية الاحتلال البريطاني يمسي هؤلاء الصبية رجالا يختبرون الرغبة في التحقق، وتختلف مصائرهم، ثم يتغير وجه الحيّ نفسه، بخلخلة العلاقات الاقتصادية، وحقائق القوة بين أطرافه، مع صعود الوعي العام في البحرين، وانتزاع حق الإضراب بتخطيط من يساريين في البلاد، ضد تعنت شركة النفط ومديرها الأميركي.

تبدأ أحداث «جراندول» للكاتب البحريني خالد البسام عام 1951، ولأن أبطال الرواية تلاميذ في مدرسة ثانوية للبنين بمنطقة محافظة في وسط المنامة، فليس «هناك أيّ رائحة للأنوثة على الإطلاق»، ويركضون نحو خمسة كيلومترات لرؤية تلميذات خارجات من مدرسة البنات، وهناك يتخيل التلميذ «عبدالله المنامي» نفسه يشاهد فيلما رومانسيا لعبدالحليم حافظ أو عمر الشريف.

سلوك بريء يعزيه عن رؤية وجه مدير المدرسة المتجهم دائما «شيخون» وهو قائد سابق في الجيش السوري وشارك في حرب 1948، ويبدو أن الهزيمة في الحرب أورثته سادية يمارسها على الصغار، ويكفي تأخر أحدهم ثلاث دقائق، بعد قرع الجرس، لاستفزاز «الطاغية» شيخون، وضربه للتلميذ بخشونة. من ضحاياه «عبدالله المنامي» الذي تألم يوما كاملا بعد تلقيه الضرب العنيف، وعجزت يده عن تناول الطعام، فيكره كل العصيّ حتى عصيّ العميان، ويقرر عدم الرجوع إلى المدرسة، بعد أن نجا من موت، ويهمس لنفسه «لا أريد أن أذبح»، ولكن أمّه تتوسل إليه، وتحذره موضحة أن ترك المدرسة يعني التشرد وضياع المستقبل، فيرضخ ويعود، ويفاجأ بأن زميله في الفصل «عبدالمحسن» تزوّج، وغاب عن المدرسة وعمل حمالا في سوق المنامة.

يضيق عالم المدرسة المحدود بخيال الصبية، فيعقدون اجتماعات سرية، ويقررون المغامرة بالذهاب إلى «جراندول» في وسط المنامة، ولا يعترض إلا عبدالله مدفوعا بالخوف والمثالية الأخلاقية، كما أنهم صغار يعولهم الآباء. يختلف الزملاء على فكرة اقتحام «جراندول»، وهل يكتفون هناك برؤية النساء؟ أم يفعلون ما يفعله روّاد الحي؟ كانوا يعلمون أن «جراندول» له قوانينه وأعرافه المطبقة على النساء والزبائن، وهي كافية لبث الخوف لدى من يدخل للمرة الأولى. حسم الفتيان أمرهم وذهبوا لإشباع فضولهم، ينوون الفرجة على الحيّ الذي وجدوه مزدحما في شهر رمضان، ولكنهم أصيبوا بخيبة أمل؛ فالمكان الذي تخيلوه قطعة من الجنة كانت أزقته ضيقة، وبيوته قديمة ومتهالكة.

«جراندول» ـ التي صدرت في سلسلة «روايات» الهلال في القاهرة ـ رواية مهمة لخالد البسام (1956 ـ 2015)، بعد دراسات أرّخ فيها لجوانب ثقافية وفنية واجتماعية وسياسية في البحرين والخليج عموما. هنا سرد فني لتاريخ آخر، غير رسمي، تنطلق فيه كاميرا الروائي من حيّ البغاء، لكي ترصد بعضا من تفاصيل الخريطة الاقتصادية والاجتماعية، وصعود الوعي، ونموّ التيارات اليسارية، وحركات الاحتجاج.

البسّام المثقل بوعي تاريخي وسياسي لم يستسلم لغواية الانزلاق إلى شراك تفاصيل جنسية ستجد هوى في نفس قارئ يحلو له التلصّص على جانب من تاريخ الخليج، بنظرة أفقية، استشراقية ربما. لم يهمل المؤلف تلك التفاصيل تماما، وتعامل معها من الداخل، بعين حانية لا تتّهم ولا تستعرض، بل تكشف برفق يشي بالحياد المراوغ، بداية من مفارقة تمثّلها لافتة «هذا بيت أشراف.. الرجاء عدم طرق الباب في أيّ وقت»، وقد أوقع سوءُ الحظ ساكنيه أن يكون بيتهم في مدخل حيّ الدعارة، فلم يسلموا من أذى سكارى يطرقون الباب بعنف، ويسبّون أهله لأنّهم لا يردّون. وهناك أب مسكين، يطوف باحثا عن ابنته الكبرى، ولا يقتنع بإنكار القوادين لوجودها، ويثق بوقوعها في قبضة قواد يخفيها، ويستثمر أنوثتها بانتقاء رواد يأتون من أجلها، ويدفعون فيها الكثير، ولدواعي السرية «وضرورات المهنة» يغيّر اسمها دائما.

كانت الفتاة قد اختطفت مثل الكثيرات من منطقة الأحساء، عن طريق عصابات متخصصة تجمع معلومات عن المواصفات الجسدية للفتاة والأحوال العائلية والاقتصادية لأهلها، وفي الليل تنفذ خطة الخطف امرأتان، الأولى تقيّد الفتاة، والثانية تعصّب عينيها وتكمّم فمها فتعجز عن الصراخ، فيأتي رجلان ويقتادان الفريسة إلى الميناء حيث تنتظر سفينة متجهة إلى البحرين. وبعيدا عن الشاطئ تنزع العصبة عن العيون، وترى الفتاة أخريات من مدينتها. وفي «جراندول» يتسلم الخاطفون مكافأة، وتجد الفتاة نفسها رهينة غرف «تتسع لعشرات الفتيات من كل مكان في الخليج، بعضهن اختطفن مثلها وغيرهن هربن من أهاليهن.. من إجبار أب على زواج ابنته من شيخ ستيني… ومن المساخر أن يكون حيّ جراندول هو المأوى ربما الوحيد بينما تقوم دار الاعتماد البريطاني التي تحكم البلاد عمليا بالإشراف عليه»، والتفتيش الدوري؛ للاطمئنان على نظافته، وسلامة العاملات فيه.

في مقابل قهر يعانيه والد الفتاة، يكسر الفقر قلب عجوز تأتي بابنتها إلى الحيّ، لكي تعرضها على قواد «سمعنا كلاما طيبا عنك، وقلنا نجرّب حظنا. وكما ترى فالبنت صغيرة وجميلة لكننا فقراء.. وقد أحضرتها بنفسي واعتبرها بنتك على كل حال.. لي رجاء واحد وهو أن أعيش معها في الحي. فهل هذا ممكن؟».
عين القواد «جبار» مدربة على فرز «البضاعة»، وتحييد مشاعره تجاه الأم، فيخبرها بأنه سينظر في أمر إقامتها، والأهم بعد ظفره بهذا الصيد أن يبلغ العجوز بصيغة التعاقد، إذ ستنال البنت ربع ما يدفعه الزبائن، ويجادل بأن لديه «التزامات كثيرة ندفعها للوكالة البريطانية مقابل الرخصة»، وأنه سيضمن للبنت المسكن والمأكل والحماية، أما اسمها الجديد «جميلة» فلم يطلب له ثمنا! وستعاني جميلة بعد أن صارت ملكة عرش جراندول من مطالبات «العاهرات القديمة» برحيلها، أما «أم عزيز» فتنشغل بحصر الأموال التي حصدتها ابنتها «جميلة» في الليلة السابقة.

تعايش في «معتقل جراندول» نقيضان، اللذة للقادرين من رواده، والشقاء والامتهان للعاملين فيه، باستثناء القوادين الذين يعتقلون النساء ويمنعون هروبهن. وقد أدت الاتصالات الجنسية إلى إصابة نساء صغيرات بأمراض بعضها بسيط يزول بعلاجات بدائية، وبعضها مزمن أجبر البعض على الاعتزال فعملن قوادات أو شحاذات في السوق.

كانت الشكوى هي سلوى مسامراتهن وقد صارت العودة نوعا من «المغامرة المجنونة.. وجميعهن لا يعرفن ماذا يفعلن؟ وكيف يتدبرن أمور المعيشة والرزق سواء كان حلالا أو حراما!»، وأحيانا يقدن الصغيرات إلى السفن البريطانية، فيفزن بكؤوس من النبيذ الفاخر، ويتبادلن الحكايات بتبرّم عن الشروط القاسية للضباط والجنود والبحارة الذين «يريدون فحصا وتقريرا مصدقا»، وخصوصا من الصغيرات.من الصغيرات الجميلات من ظللن يحلمن بالخروج. كانت «لولوة» مضطرة، وتعي أنها تؤدي عملا مهينا، وتواجه القواد بأن جراندول «قذر بامتياز، بل ربما هو أقذر حيّ في المنامة كلها».

وأحبها عبدالله، وهي قرأت ذلك في عينيه، بل «وصلت درجة حبّه لها إلى مرحلة الطهارة، فهو لم يمسك يدها حتى الآن!.. وجدت فيه كل ما تتمناه في الرجل من حنان وصدق وحب أصيل وإخلاص»، وافتعلت مواقف حتى تمكنت من طرد الزبائن، ويرسب عبدالله في الامتحان، فيسخر أصدقاؤه قائلين إنه «نجح في الحبّ وفشل في الدراسة»، وتنصحه لولوة بتعلم الإنكليزية في مدرسة الأميركان، وتتحمل هي الرسوم المالية، ثم يظفر بالعمل مترجما في شركة النفط الأميركية، ويتزوجان. ويمنحه العمل أفقا آخر، ومفردات جديدة منها الإضراب، حين يضرب العمال، بتحريض يساريين يعملون في الشركة، للمطالبة برفع أجورهم المتدنية، ولكن خبرتهم في هذا الأمر «معدومة»، فتتمكن الشركة من إحباطه.

في الصراع بين نهاية عصر الفتوات ـ القوادين وبداية «الدولة» يكسب الفتوات جولة، برفض «كيرك جلاس» نائب الوكيل السياسي للوكالة البريطانية في البحرين بيع الحيّ، ويتأكد للجميع «تحالف مقدس» بين جراندول والاحتلال البريطاني، وقد انتصر القوادون ـ الذين يؤجّرون البيوت ـ في معركة غير متكافئة بإقناع البريطانيين بأن التاجر الذي يريد شراء الحيّ سيغلقه ويحوله «إلى مركز إسلامي من مسجد كبير ومركز تحفيظ القرآن ومكاتب وغيرها.. وكان الإنكليز يقولون للعالم المتحضر إننا نقوم بدور الانتداب على البلدان الصغيرة، ونضمن كل الحريات بها، ولا نصادر أيّ شيء يمس حرية البشر فيها، سواء في الحريات الشخصية كالدعارة، والحريات الدينية كالموافقة على إنشاء الكنائس وحماية الأقليات العرقية».

وعلى طريقة التطهر في الدراما ينشب حريق في الحيّ. كان رجلان بغترة بيضاء قد سكبا الجاز وأشعلا النيران وهربا. تأخر الإطفاء ثم بدأ بطيئا، وأصيب البعض، وتفحمت جثث، وطاردت الشرطة عبدالله واتهمته بإشعال النيران. واختفت ملامح الحيّ إلا من بقايا بيوت محترقة.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى