محمود عبد العزيز.. هرب من المكان وطار

محمد شعير

ثلاثة أشهر، اهتمّ فيها المصريون بالحالة الصحيّة الغامضة لمحمود عبد العزيز. شائعات كان يتمّ نفيها بسرعة، إلا أنها تأكدت أمس: لم يعد الخبر شائعة كما تمنّى كثيرون.. لقد رحل النجم.
ولد عبد العزيز فى 4 حزيران (يونيو) 1946، بالإسكندرية، درس الزراعة في جامعتها، قبل أن ينتقل إلى القاهرة ليخوض أولى تجاربه: المسلسل التلفزيوني «الدوامة» (1974). وكما كان التلفزيون أول اطلالته على عالم النجومية، كان مسلسل «رأس الغول» آخر تجاربه التي قدمها في رمضان الماضي. وبين التجربة الأولى والأخيرة عشرات الأعمال السينمائية والتلفزيونية والإذاعية المتميزة.
منذ البداية لفت عبد العزيز الأنظار إليه باعتباره «جان» سينمائي، توافرت فيه كل مواصفات النجم العاشق، فقام بأدوار في «الحفيد» و «المتوحشة» و «وداعا للعذاب».. وغيرها. ثم كانت النقلة في دور ثان في فيلم «البريء» حيث يقوم بدور المعتقل، إذ نرى العقيد توفيق شركس الذي يعيش حياة مزدوجة بين حياته الخاصة حيث يبدو في غاية اللطف والرقة، وبين حياته العملية حيث يمارس أبشع وسائل التعذيب بعنف ووحشية، فكانت الازدواجية في شخصية العقيد عندما يشارك طفلته في اختيار هدية عيد الميلاد فإنه يرفض أن يبتاع لها لعبة على شكل عسكر وحرامية وإنما يختار لها آلة موسيقية رقيقة هي الغيتار، بل إنه لا يتعامل بغلاظة مع شرطي المرور الذي يعنّفه لوقوفه بسيارته في الممنوع. في مقابل ذلك يتحول توفيق شركس إلى وحش بشري في معسكر الاعتقال، لا يخضع لأي وازع إلا إرضاء الرؤساء الذين يكلّفونه بواجبات منصبه، فيبالغ في التنكيل بنزلاء المعتقل.
توالت أدواره حتى دوره المميز في فيلم «الكيت كات» المأخوذ عن قصة إبراهيم أصلان «مالك الحزين» من إخراج داود عبد السيد.. حيث الشيخ حسني الضرير الذي «أشوف أحسن منك في النور وفي الظلمة كمان» الذى يركب حصان خياله، ويقود المبصرين، أما في «الساحر» يقوم عبد العزيز بدور منصور بهجة (ابن البلد صانع البهجة برغم أحزانه العميقة، الذي يقيم العالم على جسور الفهلوة والشقاوة. عمله الأخير «رأس الغول»، كان محاولة لفضح الواقع، ربما كان امتدادا لأعمال سابقة له، خلاصة تجمع بين السياسية، الإثارة، وتخلى فيها ـ كما في كلّ أدواره الأخيرة ـ عن وسامته، ليقوم بدور سجين سابق يجد نفسه مطاردا. ربما كانت الشخصية أشبه بشخصية «سعيد مهران» في «اللص والكلاب»، رواية نجيب محفوظ الشهيرة، ولكن على العكس من مهران، يحاول فضل الغول بعد هروبه من السجن متخفيا فى اسم شخص آخر» درويش عبد ربه»، يحاول أن يختفى، لا يفكر في الانتقام ممّن خانوه، يكتفي من بعيد بمتابعة ابنه الذي تركه صغيرا. فجأة يجد (درويش) نفسه مطاردا بتهمة اغتيال وزيرة الصحة… وعلى مدى الحلقات يتكشف لنا ماضيه الغامض وسط مطاردات من رجال اعمال، ومافيات شركات أدوية عالمية، ورجال أمن. وعبر الحوارات نكتشف «كلاب» العصر الجديد. وعلى العكس من سعيد مهران أيضا يبحث الخونة انفسهم عن فضل الغول، ليصبح رأسه مطلوبا منهم. رجل الأعمال (زهير) الذي يتخفى في اسم آخر أمجد الديب، ويستخدم أمواله ورجال قانونه، وضباط فاسدين، وقتلة مستأجرين، ووزراء ومسؤولين للتخديم على أعماله، يستخدمهم للبحث عن (الغول) المطارد أيضا من شركة أدوية عالمية بحثا عن بحث طبي سيحقق شفاء من اللوكيميا، ونجاتهم يعني أن تفقد الشركة أرباحها، ومن شركة أمن خاصة، يرأسها ضابط سابق، وزوج ابنه الوزيرة التى تم اغتيالها.. شخصيات عديدة لا تحمل اسماءها الحقيقة الجميع يختبئون خلف قناع أو اقنعة، الاسم البديل احداها.
في مشهد دال يقوم أحد رجال الأعمال (سمير العصفوري) من ضحايا أمجد الديب بتقديم الحاضرين إحدى الحفلات لدرويش.. يقول مخاطبا (محمود عبد العزيز): «البلد بقت سيرك كبير» يعطيه لمحمة عن شخصيات الحاضرين مجمتع رجال الاعمال وزراء وتجار آثار وأعضاء برلمان… «غيلان» حسب وصفه، «كل غول فيهم يحمي نفسه بطريقته، انت اخترت أن تحارب أقوى غول فيهم، علشان تقوله عينك حمرا لازم تشد القناع من عليها، والقناع لاصق في جلده ما يطلعش إلا بالدم».. بالتأكيد كان لص محفوظ تجسيد لأزمة فكرية عميقة يعيشها المجتمع، لكن في «رأس الغول» ـ برغم الأزمات الأعمق في المجتمع ـ يتحول المسلسل في الحلقات الأخيرة الى مطاردات وأكشن وتخفت قليلا «الأزمة» الفكرية والروحية التي تقف وراء الفكرة كما حاول محفوظ أن يعبر معها. رحل عبد العزيز الذي غنّى يوما ما:
وكل واحد مننا يركب حصان خيالة
درجن درجن درجن درجن
هنهرب من النهاردة ونهرب من المكان
ونطير ونطير ..
نطير مع نسمة شاردة ونروح لأيام زمان

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى