عن بصمة الروح

جمال ناجي

كانت بصمة الإبهام هي التطبيق الوحيد المعتمد للتعرف على الشخصية، لأن تفاصيل خطوطها المتعرجة وما بينها من مساحات ومسامات تعد خاصة بكل مخلوق وغير قابلة للتكرار في أي إبهام لأي شخص آخر.
تطورت تقنيات التعرف على الإنسان واتخذت أشكالا أكثر دقة وفاعلية، حين تم اكتشاف بصمة الحمض النووي وبصمة العين، التي تبين أنها تنطوي على خواص فريدة مختلفة لا يمكن تكرارها حتى بين الأم ورضيعها. لكنها ظلت ـ كغيرها – محصورة في تحديد الهوية الفيزيائية وتفاصيلها ذات العلاقة بالجنس واللون وتقسيمات الوجه وسائر أعضاء الجسد، دون الاقتراب من الملامح غير الملموسة وغير المنظورة، التي تميز الفرد عن سواه، وتمنحه خواصه وعناصر اختلافه عن سواه.
هذه التطورات تفتح الباب للحديث عن نوع غير مألوف من البصمات التي تحدد ملامح الشخصية إلى حد التفرد الكامل والاستعصاء على التماثل مع الآخرين، إنها بصمة الروح التي لم يتوقف العلماء عندها، في غمرة انشغالهم بالجوانب التشريحية والعضوية التي تشي بأنهم لا يرون في الإنسان غير جسد زاخر بالأعضاء والأنسجة والخلايا والنيوكتيلدات. لكل إنسان بصمته الروحية التي تجتمع فيها كل العناصر غير العضوية المحدِدة لكينونته وسماته، بدءا من ملامحه غير المرئية، مرورا بميوله العاطفية والنفسية ورغباته الدفينة، وما يؤمن به، وما تنطوي عليه هيئة حضوره ودفائن أحاسيسه وضميره، ونظرته إلى الأشياء، وندوب أعماقه ونأماتها، وأسباب تململها واستيقاظها، وليس انتهاء بالأصوات الخفية الساكنة في دخيلته وأعماق روحه، تلك التي لا يمكن سماعها أو رصدها أو تفريغها في أي اختراع تكنولوجي، على الأقل حتى الآن.
ربما كانت تلك البصمة ترجمة لخفايا الروح ومتطلباتها وإيحاءاتها وعلاماتها، وربما كانت انعكاسا لسماتها وتلاوينها أثناء مرورها في مضيق الجسد وسيرورته على هذه الأرض، لكنها تظل مرتبطة بها متجانسة معها من حيث أنها ـ مثلها ـ غير ملموسة وغير قابلة للرقابة. وبالطبع، لستُ مع ابتكار منظومات تكنولوجية أو أثيرية ذكية للتعرف على الشخصية أو القبض على أسرارها عن طريق فك شيفرة تلك البصمة، لأن هذا سيحيل الروح إلى موضوع تفتيش وتدقيق وضبط، ويفتح الباب واسعا للحكم على النوايا، واستباق الأحداث، وإفساد متع التفرد ومخططات الروح، ما قد يفضي إلى السطو عليها وتعقبها وربما تقييدها بسلاسل النظم والضوابط الجائرة المثيرة للسأم والضجر. لحسن الحظ أن بصمة الروح لا تنفع للمعاملات الرسمية والبنكية والحدودية ولا تستطيع الأجهزة كشفها، لأنها ترافق صاحبها كالجسم الأثيري، وتنساب عبر الضوابط السياسية والأخلاقية والاجتماعية والأمنية، دون أن يراها أحد أو يصادر حقها في التجوال الحر بين مصفوفات التقاليد والقوانين والأنظمة.
أخيرا، من المؤكد أن بصمات الأصابع والعيون وسواها تندثر بموت صاحبها، ومن المؤكد أن الحمض النووي لا يقوى على البقاء بعد أفول صاحبه، لكن من الممكن أن تظل الروح خالدة تطوف في مسارب الكون، حاملة تلك البصمة التي قد تطوف معها إلى الأبد.

 

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى