“العُشاق والطاغية”.. اختطاف السينما!

قيس قاسم
وحدها قصة اختطاف مخرج سينمائي وممثلة من جنوب كوريا إلى شمالها، وإجبارهما على إنجاز أفلام جيدة المستوى والعمل تحت التهديد بالقتل أو السجن الانفرادي على تطوير السينما الجنوبية، تضفي على الوثائقي البريطاني “العشاق والطاغية” تشويقاً استثنائياً وتضيف فكرة عملية الخطف نفسها إلى سجل عجائب قادة كوريا الشمالية، أعجوبة جديدة فيها الكثير ما يستحق أن يُوثق ويُقدم في إطار سينمائي، لأنها في الأساس عن السينما وعن عاملين بها تعرضوا لأنواع العذاب بسبب نزوات قائد شمالي تربى على أخذ كل ما يريده؛ بالليّن أو بالقوة وهذا ما حاولت كشفه رائعة المخرجان “روبرت كانان” و”روز آدام”: The Lovers and Despot.
حتى في مفتتحه التوضحي لخلفية الصراع بين الكوريتين الممتد لأكثر من ستة عقود، يعتمد صنّاعه على الصورة السينمائية المأخوذة من الأفلام ولهذا فمنجزهما سينمائي بامتياز على المستويين السردي والحكائي، لاعتماد بناءه على عدد من أشرطة أفلام كورية تناولت بطريقة وبأخرى حكاية الزوجين العاشقين؛ المخرج الشهير “شين سانغ ـ أوك” والممثلة المعروفة “تشوي أون ـ هي”، وغيرها مسّت بدرجات متقاربة تجربتهما في كوريا الشمالية، كأسرى وسينمائيين في آن، ومن هنا جاءت تعددية موضوعاته، فهو؛ سيرة ذاتية للمخطوفين وكتابة في جانب من تاريخ السينما الكورية، إلى جانب سياسته كونه يحاول كشف طبيعة النظام السياسي في كلا البلدين خلال فترات زمنية مختلفة، جرى التركيز على نصف قرن منها؛ بدءاً من صعود النجمين خلال الستينات مروراً بالسبيعنات لوقوع عملية الاختطاف فيها، تحديداً في عام 1978 وصولاً إلى أواخر التسعينات التي شهد العام الأخير منها عودتهم إلى وطنهم.
يعتمد الوثائقي كثيراً على جهاز التسجيل الصوتي، الذي كان موجوداً بحوزتهما سراً خلال فترة إقامتهما الإجبارية في الشمال، لا لأهمية ما سُجّل عليه من تفاصيل وانطباعات تعطي المنجز مصداقية وقوة فحسب، بل لأنه صار دليل إدانة للجناة ومعين لتصور الظروف التي عاشا فيها والأساليب القمعية التي استُخدمت ضدهما وأجبرتهما على التعاون مع ابن الزعيم “كيم إيل سونغ” الشاب “كيم جونغ ـ إيل” والذي سيرث أبيه بعد مرور سنوات على عملية الاختطاف، إلى جانب أحاديثه معهما عن السينما وعن أوضاعهم في السجن وخارجه، بحيث أمكن البناء عليها بصرياً بعد إعادة كتابتها بصرياً.
وعلى المستوى الشخصي تُرك للمثلة “أون ـ هي” سرد تفاصيل علاقتهما العاطفية وزواجها من المخرج “شين”، الذي قام بدوره بتجسيدها في أكثر من فيلم رومانسي، لعبت هي بطولته ورافقته بعدها طيلة مسيرته السينمائية ممثلة وزوجة ومن هنا جاء لقبهما: “السينمائيان العاشقان”. حظيا العاشقان بشهرة كبيرة في بلادهما والفيلم توقف طويلاً وخاصة في ربعه الأول عند مساهمتهما في تطوير السينما الكورية الجنوبية وهوس “شين” بها إلى درجة كرس كل جهده وماله لها. استعرض من خلال ولديّه تجربته مخرجاً، ومن خلال أحاديثهما المختلطة فيها مشاعر الأبناء نحو الآباء وبين مسيرته كسينمائي عاشا معه وتذكرّا تفاصيل ما أنجزه.
بكل هذه العناصر تمكن الوثائقي من تقديم لمحة ممتعة عنه وعن السينما التي تجاوزت مثيلتها في القسم الشمالي بما لا يقاس وكانت دون أن يدريا موضع حسد الطاغية الموهوم بالعظمة والعاشق هو الآخر للسينما، وفي ذلك غرابة ومفارقة جديرة بالتأمل، وقد التفت إليها صُنّاعه جيداً وقاما بتناولها من منظور حيادي موضوعي سلط الضوء على شدة تعقيد التركيبة النفسية لزعماء كوريا الشمالية.
فهو من جهة كان شديد القساوة، سريع الغضب، مترفع على الناس ومتكتم يحصل على كل شيء يريده مهما بدا مستحيلاً، ومن جهة أخرى متابعاً وعاشقاً للسينما، يشاهد الكثير من الأفلام وعنده قاعة خاصة لعرضها. يحب الغربية وبشكل خاص أفلام الجارة الجنوبية، بما يتعارض مع عقيدته الفكرية وتزمتّه الأيدولوجي وكراهيته في نفس الوقت لكل ما يصدر من الغرب ومن الجنوب!
نظرته نقدية للسينما المحلية التي وجدها دعائية مكررة تسودها البكائية وتمجيد الأفكار الحزبية لا الناس. بعيدة عن الحياة العادية تخلو من قصص الحب، عكس الجنوبية وأكثر ما يلفت انتباهه فيها شغل المخرج “شين” وأداء “أوين ـ هي”، ومن هنا جاء قراره بخطفهما ونقلهما إلى بلاده لنسخ تجربتهما ورفع مستوى الصناعة السينمائية المحلية على أكتافهما.
يسجل الوثائقي المتغيرات الدراماتيكية التي سبقت الخطف على المستوى الشخصي تمهيداً لفهم المُشاهد بقية التفاصيل المتعلقة بهما وبمصيرهما. بعد إفلاس شركة الإنتاج السينمائي الخاصة بالمخرج وتعرّفه على ممثلة شابة دون علم زوجته أدت إلى تدهور علاقتهما الزوجية وبعد مدة إلى نهايتها بالطلاق. الصعوبات المالية دفعت الزوجة للبحث عن فرص عمل خارج البلاد فذهبت إلى هونغ كونغ للتمثيل وفي إحدى زياراتها اختفت في ظروف غامضة. تركت كل أغراضها في غرفة الفندق على حالها، لكنها لم تعد إليها ما أثار الشكوك حول إمكانية تعرضها لمكروه.
تحريات الشرطة وتسجيلاتها الصوتية على الأشرطة المهربّة إلى عائلتها سراً، أظهرت أن خطة مدروسة قد تم إعدادها في الشمال وتم تطبيقها في هونغ كونغ. نقلت بحراً الممثلة، مخدرّة إلى كوريا وبعد مدة طويلة من الحبس ظهرت بصحبة الزعيم “كيم جونغ إيل”.
تصف بنفسها تفاصيل إقامتها الإجبارية، ويقوم الوثائقي بدوره في إعادة تمثيلها سينمائياً وأحياناً يربطها بمشاهد جاهزة مأخوذة من أشرطة فيلمية لامست عن قرب نفس التجربة. الرعب والترهيب الذي تعرضت له وعمليات غسل الدماغ أيدولوجياً لا يمكن تصورها أو الصمود أمامها، فقبلت في النهاية بالتعاون معهم مجبرة.
لقد حولوها الى آلة تنفذ كل ما يُطلب منها. شاركت في أفلام من إخراج شماليين وحضرت دعوات رسمية وحفلات عامة لتظهر أمام العالم وكأنها جاءت بنفسها إلى الشمال مقتنعة بالتجربة “الفريدة” لاشتراكيتها.
في المقابل يبيّن الوثائقي من خلال شهادات أولادهم وما كُتب عنهم في وسائل الإعلام ديماغوجية النظام الكوري الجنوبي رغم تبجحّه بالديمقراطية. عاملهم كخونة للبلاد ولم يوفر لهم أي فرص عمل، بل على العكس حكم بشكل نهائي على “الهاربة” بالخروج عن الطاعة الوطنية وحين سيلتحق بها زوجها “مخطوفاً” سيرتفع سقف التهم عالياً، وسيرفض حكامها الاستماع إلى شهاداتهم أو تصديقها.
قصة اختطاف الزوج جاءت مختلفة لأنها خلت من الأدلة فأحيطت بهالة من الشكوك لكن الأشرطة الصوتية ستقوي لاحقاً موقفه وسيفضح كلام الزعيم الكوري معهما واعتذاره “الشكلي” عن “اختطافهما” حقيقة ما جرى للزوج. تجربة “شين” أكثر قساوة من زوجته، فقد أودع السجن لمدة خمس سنوات تخللتها فترات طويلة من السجن الانفرادي في زنزانات مظلمة وباردة، بسبب محاولته الهروب وفشلها ما عزّز قناعة القيادة الكورية لحاجته إلى المزيد من “التظيف” الفكري.
بعد مدة من مكوثه وتدهور حالته الصحية أخذ يكتب التماسات إلى الطاغية وفي نهاية المطاف أُخرج وقابل زوجته السابقة وبدءا العمل لتطوير السينما الشمالية تحت ضغط الترهيب فيما أظهرتهم الدعاية الشمالية كشخصين مُقتنعين برحلتهما الطوعية إلى أحضان بلادهم؛ كوريا الشمالية.
كل تفاصيل القصة كتبت بأسلوب سينمائي متميز، اعتمد كثيراً على المونتاج المتوازي وعلى إعادة تمثيل المشاهد روائياً أو الاستعانة بأشرطة فيلمية قديمة، إلى جانب بعض المقابلات التي حاول صناعه تقليصها إلى أدنى حد ممكن.
أسلوب سرده سلس، أضفت موسيقى “ناتان هالبيرن” عليه أصالة وأعطت له عمقاً درامياً. أُريد له أن يأتي كسيرة شخصية وتاريخ لهذا لم يتوقف عند وجود أبطاله في الشمال وفترة سجنهم فحسب، بل انتقل إلى مرحلة أكثر دراماتيكية راح يتابع خلالها خطة هروبهما من سجن الزعيم “الآمر” إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
قصة ترتيب الهروب والتمهيد له عبر توفير قناعة كبيرة عند قادة البلاد بقوة إخلاصهما لهم ولنظامهم نُقلت بأدق تفاصيلها لأهميتها على المستوى الدرامي والشخصي.
بذلهما المزيد من الجهد في إنجاز أفلام كثيرة شاركت في مهرجانات عالمية وكسرت “الحصار” المفروض على الشمال، مع اقتران اسميهما بالسينما الجديدة خلال عقدي الثمانينات وبداية التسعينات صب في مصلحة خطتهما، لدرجة لم يصدق أحد، أن ما قاما به كان كله تحت تأثير الضغوطات والتهديدات، باستثناء المتعاطفين معهم من المشتغلين في السينما وقد أُحضر بعضهم لتسجيل شهادتهم.
في تجربة “شين” جانب قلق أشار إليه الوثائقي، عبر مراجعته لمواقفه وإشاداته المعلنة بالدعم المالي والميزانيات المفتوحة لأفلامه ما أشعره بالراحة والحماسة للعمل. في وقت لاحق سيحيل ارتياحه إلى خطته الصبورة التي وضعها وكانت أهم عناصر نجاحها: توفير الثقة المتبادلة بينه وبين طاغية البلاد. لجوئهما إلى السفارة الأمريكية في فيينا ومطاردة رجال المخابرات الكورية لهما في شوارعها من بين أكثر المشاهد المعادة تمثيلها حبساً للأنفاس كونها اقترنت بوصف دقيق من قبل الممثلة نفسها، فجاءت الصورة مُشبعة بالتعابير الصادقة عن اللحظة التي عاشتها.
في الولايات المتحدة قُبلت طلبات لجوئهم، في جو استعراضي دعائي. أقاما فيها مدة دون إنجاز أعمال مهمة وحتى بعد عودتهما إلى بلادهما عام 1999 لم تتوفر لهما فرص عمل جيدة على عكس الطاغية، الذي ورغم غضبه عليهما راح يُخرج أفلاماً بنفسه وإن ظلت حبيسه مكانها من بينها؛ “الأرواح الغاضبة” الذي أراده قريباً من “Titanic” وكرّس له ميزانية أسطورية، لم تُشبع أبداً طموحاته السينمائية وهوسه بفن بعيدة قيمه كل البعد عن سلوكه الوحشي وطريقة تفكيره الغريبة.
من المؤكد أن “العشاق والطاغية” ممتع وعميق فيه الكثير من التفاصيل المثيرة والأفكار الإخراجية اللافتة كما أنه لا يخلو من حرص على تعرية الطغاة والأنظمة الاستبدادية والذوات المشبعة بأوهام العظمة.
(الجزيرة الثقافية)