«في حضرة العنقاء والخلّ الوفي» لاسماعيل فهد اسماعيل: هل يستحق الانسان هذا الوطن؟

الجسرة الثقافية الالكترونية – وكالات

تقوم هذه الرواية على تجسيد فعلي لمفاهيم أدبية ونقدية وجمالية جديدة تتصل بوظيفة الرواية ومفاهيمها وصلتها بالواقع وعلاقتها بالمتلقي.
فالكاتب عبر روايته وأدواته يحاول التصبر عن علاقة الإنسان بواقعه المتغير المتجسد.
كما يطرح الأسئلة الفنية التي تصدم القارىء وتهز وعيه الجمالي وذوقه، كما تشير روايته قضايا جمالية عبر محاورات الشخصيات، إذ بنيت شخصياته بالطريقة المباشرة بتقديم الشخصية بواسطة التسمية وصفاتها النفسية أو الجسدية، كما يمكن للاسم أيضاً ان يوحي بجزء من صفات الشخصية كشخصية (فتنة).
كلام غير وجيه لأن المكان غيره والجمهور السوري متذوق نوعي عدا عن احتمال حضور صاحب النص سعد الله ونوس. ص38.
ونجده يقول في جمال فتنة النسيان أيضاً:
مصادفة سكنى رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي في شقة من الطابق الأول في المبنى حيث الملحق، كان ذا قامة هزيلة تميل للطول، عيناه بنظرة حادة وسط وجه مرهق يوحي بكهولة مبكرة رغم أنه لم يبلغ الأربعين بعد) ص22.
رواية إسماعيل فهد إسماعيل (في حضرة العنقاء والخل الوفي) غنية بالشخصيات، فهناك شخصية السارد منسي، الذي يدير الأحداث، وهو العارف بكل الأمور والأشياء. فالكاتب اعتمد على تقنية التداعي بضمير المتكلم. فالرواية (يوم من أيام منسي).
ونلحظ في هذه الرواية شدة الاهتمام بالجانب النفسي في بناء الشخصية، وإظهار العمق النفسي لكل شخصية من شخصيات الرواية.
(يا زينب من باب العلم بالشيء أسمعتك إحدى مقولات أمي. لو خُليْت قُلبْت. لا أعرف منشأ هذه المقولة ولا مِن اين استقها، لكني أتذكرها ترددها بالفصيح على مسامعي) ص4.
يستدعي نص «في حضرة العنقاء والخل الوفي» فكرة الوطن، ما الوطن؟ المنزل نقيم به وهو مواطن الإنسان ومحله، وأوطان الغنم والبقر مرابضها وأماكنها التي تأوي إليها، هذا ما تعرفه اللغة عن الوطن، فالأوطان للإنسان والحيوان أماكن ومرابض تأوي إليها، فكل مقام قام به الإنسان لأمر فهو موطن له، إذ وطن نفسه على الشيء، وله فتوطنت، حملها عليه فتحملت وذلت له أي خضعت له.
ولكن هل الوطن مجرد مكان تشاهده على الخريطة، وتعرفه أقدامنا وتبيت فيه أرواحنا، هذا ما أنتجه اللغة، ولكن ماذا حدث في الواقع؟ حاول إسماعيل فهد إسماعيل من خلال بطله في الرواية «منسي» أن يجد تعريفاً آخر للوطن، الوطن الذي يعترف بكل ما سبق ذكره، ولا يعترف بآدامية «منسي» أصلاً، لسبب بسيط جداً، لأنه لا يحمل أوراقا رسمية تثبت أنه إنسان يستحق هذا الوطن! فالوطن في هذا الزمان، كما يراه الروائي إسماعيل جاء على الشكل التالي: (تقولها تغني بها معها زاد عدد الكويتيين الذين لا يبالون أو من الذين ساهموا عنوة أو عن سابق تصميم بتكريس معاناتنا، جعلوها مزنة لتبدو وكأنها مستعصية الحل، هناك كويتيون يحلقون خارج السرب يعاملونك بصفتك مواطناً، بصرف النظر عن أوراق ثبوتية قيد قرارات رسمية. الإنسان موقف تؤكده مبادرة لا تراوح عند مشارف إبداء تعاطف أو مشاركة وجدانية) ص15.
هذا التوظيف السردي من قبل الروائي، يفتح المشهد الإنساني على مصراعيه، ويجعل هذا السرد، يمتلك أحاسيس عميقة بالمطلق الإنساني، والعاطفة الوطنية لم يأت من فراغ، بل كان له ما يبرره في علاقة من الإخصاب والتجدد والنمو في الحياة بين طرفي المعادلة.. الإنسان والمكان.. حيث القيمة العليا للعمل في إطار من المساواة يتجلى ذلك كثيراً في ديوان هاجسين «من القمر والطين» والتي يصف فيها جذور تلك العلاقة بشكل فيه من الرمزية الصوفية دليلاً على توهيج الحواس:
الأرض قالت حن
طيرتني فتافيت
رديت وقلبي يئن
وأنا مين يجيب لي مغيت
منك ومن عشقك
هذه الحالة من التوحد بين الذاتي والمكاني في شعر صلاح شاهين بأنها ترجع في الأساس إلى نظرة خاصة إلى الحياة الاجتماعية، لأنه يعرف ما يريده، ويعرف نوع الحياة التي يتمنى أن تسود في بلادنا. وعلى هذا المنوال عزف بطل إسماعيل فهد إسماعيل منسي حين قال: (أنا لم أرتكب جريمة حتى أدفع ثمنها، ألمني كونها تقصر معاناتها عليها وحدها، آلمني أشد تهربها مني في الفراش. لست راغبة، بأسها يتشرب صوتها. ما أدراني ما الذي تسفر عنه محاكمتي، تبدي تشككها. ماذا لو ثبت بطلان عقد زواجي. حديثها كله بضمير الأنا كأن الحدث يمسها وحدها، عهود وسط احتدام الظرف تصنفني طارئاً على وجودها، الملحق حيث تتواجد أمي بعدة أمتار، أنا أنتمي للمكان الملحق، راودني هاجس إخلاء شقتها لها، عزّ ع لي تحقيق معاناتها) ص152.
يتشكل إذن وطن النساء على الحدود ما بين الخاص والعام، ليدمج الاثنين معاً أخذا من ماض مشترك، وحاضر آني، ومستشرقاً لمستقبل آت، غير مستقر بل متجدد دائماً في حركته الدائمة بين هنا وهناك، الأمام والخلف، منتجاً بذلك صورة مغايرة للسائد والثابت وهي صورة لا تهدف إلى مجاورة الصورة الأصلية (إضافة كمية) بل تهدف إلى تغييرها مما يجعل الوطن الذي تراه النساء مرفوضاً ومستنكراً، فتبقى الأسئلة نفسها التي تدور في فلكها، كيف تخط المرأة في التاريخ وفي الحيز الثقافي العام مشروعها كذات محددة مخصوصة لا تتكرر ولا يغني عنها وكيل، كذات تعي شرطها التاريخي وتبني مشروعها للعلو على شروطها وحدودها، فتجسد منا الوعي في إبداع أو إنتاج أو عمل فني أو سياسي، أو إنساني؟ بالتعرف عليها؟ قبولها؟ الاعتراف بها؟ إفساح مكان لها؟ استلاب رؤيتها؟ الاستخفاف بها؟ أسئلة كثيرة، بعضها قديم والأكثر جديد.
لكن هذا الخطاب في شكله النهائي لا يبدو كأنه منفصل تماماً عن الموروث الذي شكل الوجدان تجاه الوطن. بل ن في استقائه لكل مصادر الحكي وتوظيف الذاكرة ودمجها مع اللحظة الحاضرة المعيشة، يتشكل ماضيه (الذي يبدو أحياناً ذهبياً) ويطرح سؤال المواطنة في حاضره.
وقدم إسماعيل أنموذجاً آخر في روايته، تجلت صورته بناجي العلي فنان الكاريكاتير الفلسطيني، ومن خلال تأثره بهذا الفنان من خلال بطله منسي، الذي صوره بطل، يقترب للأسطورة: (هو صديق فلسطيني فنان كبير يدعى ناجي العلي سفروه خلال أيام وجودي في دمشق. إلى فضول عهود مشاركة. لماذا سفروه. أهل بلدك ضاقوا به. استغربتني لماذا بلدي، لأنك كويتية) ص117.
ويرى الروائي إسماعيل أن ناجي العلي لا يمكن أن يتغلب على أوضاعنا العربية بممارسة الفن، على الرغم أنه يغامر بوجوده، وبالرغم من ذلك فلم يفقد ناجي الميزة الضرورية لإبقائه فنان، ألا وهي التمرد على كل شيء.
إن ناجي العلي مفعم بالدفء والحياة والإنسانية إلى حد كبير بحيث أنه يصعب تحديد أين تكمن تعاطفات إسماعيل فهد إسماعيل، وفي جعل ناجي الشخصية الأفضل والأكثر إنسانية في روايته.
وينتقل لصورة أخرى، من صور من تأثر بهم، فنجد أن الكاتب السوري محمد الماغوط، يقدم سرداً جميلاً في توصيف قدرة الماغوط بإعلاء قيمة إنسانية تبلورت فكرتها بالحزن. ويتميز إسماعيل في هذا التوظيف يقدم رؤيته الروائية، ومن ثم يستشهد الماغوط: (في سياق قراءات سابقة ورد ما معناه، الزواج الرسمي إحدى صيغ تملك الرجل للمرأة، تلفت داخلي لم أجد صدى يخصني، وجدتني بإحساس المملوك طوعية، تحاشياً لعامل تخصيص نفسي لا مبرر له، أقنعني كن على سجيتك.
للكاتب السوري محمد الماغوط إصدار يحمل عنواناً ذا دلالة حادة، الفرح ليس مهنتي) ص14.
ولا ينسى إسماعيل فهد إسماعيل قلب العروبة النابض، دمشق، فيصورها روائياً على الشكل التالي: (تتفرع أزقة دمشق القديمة من أجل تلتقي، وجدنا حالنا أمام الباب العملاق للمسجد الأموي. من هنا، غمغمتها عهود بصوت هابط لتقتادني نحو زقاق عريضة نسبياً تمتد بموازاة سوق الحميدية) ص19.
هذا التصوير الروائي المستقر يجعلنا إسماعيل فهد إسماعيل نقول كل ما نشاهده، نبقيه في منظره، في شكله وحجمه ومادته. لم نعد شاهد تلك الحياة، الباقية فوق الحارة، أو على جنباتها، محومة ومرئية مثلما هو مرئي خط الطيران الذي تخلفه النحلة وراءها.
بل يتجاوز إسماعيل الاستفزاز ليضع المتلقي في حالة تساؤلات: لماذا نعد نرى في قاعدة العمود الأموي، اليد الأموية التي نحتته؟ لماذا لم نعد نتذكر خروج الخارجين متزاحمين في سوق الحميدية؟
كأن كل شيء انكفأ إلى حدود مادته. ونحن نتساءل: أكان ذلك لأن الأشياء تفقد مع الوقت طاقتها على استدعاء الخيالات، أم أننا نحن فقدنا القدرة على ذلك.
وسوف تزول الدهشة حين يصور روائياً إسماعيل فهد إسماعيل عنوان روايته (في حضرة العنقاء والخل الوفي) كإجابة على كل ما تقدم من أسئلة ورؤى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى