الثقافة ومؤسسات المجتمع المدني

شريف الشافعي

شرفتُ مؤخرًا بالمشاركة في فعاليات “معرض الكتاب العربي”، و”مهرجان الشعر العربي”، التي انعقدت بمشاركة دولة متعددة، منها: لبنان ومصر وسوريا وفلسطين والعراق، في الفترة من 29 أكتوبر/تشرين الأول إلى 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، بمقر الجامعة الأميركية في مدينة صور، بجنوب لبنان.

كانت مصر هي الدولة ذات النصيب الأوسع من الحضور، فبخلاف مشاركة كاتب هذه السطور في مهرجان الشعر العربي، جرى توقيع كتاب “طلال أبو غزالة – الصعود إلى القمة”، للكاتب الصحفي ماهر مقلد مدير تحرير صحيفة “الأهرام” (الصادر عن مركز الأهرام للنشر)، وانعقدت ندوة بعنوان “المجتمع المدني المصري ودوره بعد الثورة” لرئيس جمعية حكماء مصر المستشار طه الشريف، وندوة “الإعلام العربي في مواجهة التحديات” للمصرية جيهان الغرباوي الصحفية بـ “الأهرام”، وغيرها من الأنشطة والمشاركات.

وقد اهتمت السفارة المصرية بلبنان بمشاركة الوفد في الفعاليات، وتولى مسئولو السفارة وممثلة المكتب الإعلامي ماجدة إبراهيم مرافقة الحضور ومتابعة النشاطات المصرية.

ومعرض الكتاب العربي، والمهرجان الشعري، أقيما برعاية ريمون عريجي، وزير الثقافة اللبناني، ونظمتهما كل من: جمعية “هلا صور” الثقافية الاجتماعية برئاسة السفير الدكتور عماد الدين سعيد، سفير النوايا الحسنة للشئون الثقافية والاجتماعية، ومجموعة الوادي الإعلامية، وندوة العلية الثقافية، والجامعة الأمريكية للثقافة والتعليم (AUCE).

وشهد مهرجان الشعر العربي مشاركة شعراء من دول أخرى مختلفة، منهم: جهاد الحنفي (فلسطين)، علي مرتضى السندي (العراق)، أشرف كوكش (سوريا)، ومن لبنان كل من: أسيل سقلاوي، علي وهبي دهيني، فاطمة الساحلي، حنان فرفور، مصطفى سبيتي، وقدمت الأمسية الشاعرة اللبنانية فاتن الحسيني، وانعقدت في قاعة المحاضرات بمقر الجامعة الأميركية للثقافة والتعليم، بمدينة صور الجنوبية. وجرى تكريم الشعراء المشاركين، وتسليمهم شهادات تقدير من الجهات المنظمة. كما وقعت كل من الشاعرتين: فاديا حسون، سمية التكجي، ديوانين جديدين لهما.

في زمن النشر الإلكتروني، وفضاء الرقمية، صارت المحلية فكرة هشة متضائلة، فالحدود تلاشت بين الدول، وصار الشاعر العربي حاضرًا بكتاباته على إحداثيات الخريطة العربية كلها، سواء على صعيد تلقي أعماله المنشورة إلكترونيًّا، أو على صعيد تواصله مع دور النشر الورقية في أي بلد من البلدان، إلا أن المهرجانات الشعرية يظل لها وقع خاص في التعارف والالتقاء الحقيقي بين الشعراء العرب بعضهم البعض، وبينهم وبين محبي الشعر من الملتقين.

وما يلفت النظر في “مهرجان الشعر العربي”، بمدينة صور بجنوب لبنان، أن مؤسسات المجتمع المدني والجامعات والجهات التعليمية والجمعيات الثقافية والمجموعات الإعلامية، وغيرها، صارت هي المنوطة بإقامة الفعاليات الثقافية الجادة والحقيقية، كما في دول أخرى متعددة، عربية وأجنبية، بعد تراجع أداء وزارات الثقافة في أغلبية الدول، واقتصار فعالياتها على الكرنفالات الروتينية أو الاستقبالات الرسمية، غير ذات الطابع الشعبي.

والحقيقة، أن من يعول على الوزارات والمؤسسات الثقافية الرسمية، في مصر وأغلبية الدول العربية، هو معول على السلطة في حقيقة الأمر، وسيبقى رهن معطياتها الانتفاعية الفارغة، وحساباتها الضيقة، ووجودها المتآكل. لا نزال بعيدين جدًّا عما تطمح إليه اللحظة الراهنة، وذلك لأن الانقسام الأخطر لا يزال قائمًا، وبقوة، أعني ذلك الحائط الفولاذي، الذي يفصل بين المثقف السلطوي المدجن، والمثقف الحر.

منذ يوليو 1952، وما يلي ذلك في مصر، من تبلور الاصطلاح

البائس “الإرشاد القومي”، وهناك معنيان للثقافة؛ معنى سياسي، ومعنى فني. هناك “الثقافة”: الهيكل، الوزارة، الجدران، وهناك “الثقافة”: الفعل، ونادرًا ما يلتقيان. هناك “الثقافة” الدولوية، “الإرشادية”، إذا جاز التعبير، وهناك “الثقافة” كنشاط إنساني فردي، وجماعات تواصل محدودة.

المفهوم الأول، الرسمي، السلطوي، للثقافة، لم يتطور، ولن يتطور، لأن المطلب الإصلاحي الحقيقي الجاد (كما تردد عقب يناير 2011) هو نسفه، وليس تطويره. الإدارة، للأسف، لا تكاد ترى “الثقافة” إلا من خلال هذا المنظور، الذي لا تملك ولا تعي غيره. فالمثقف خلية تتغذى من قلب السلطة، وشرايينها، ومن ثم فإن الدور المنوط به هو دور خدمي، وظيفي.

هذا الدور تحتفي به السلطة، أية سلطة، ومفهومة أسباب الاحتفاء. كما أنه دور ملائم لكثيرين من المنتفعين المنتسبين إلى “الثقافة”، الذين يدركون أن حقيقة وجودهم واستثماراتهم المعنوية والمادية مرهونة بمدى استبسالهم في الدفاع عن حوائط الوزارة، وقوائمها السلطوية.

ثمة أحلام ترددت على ألسنة البعض في أعقاب 25 يناير 2011، بشأن إلغاء وزارة الثقافة، ونفض الدولة يدها عن الهيمنة الإدارية المباشرة على قطاعات الوزارة الكبرى، التي من الممكن أن تحظى بدعم غير مشروط مثلاً، أو تدار كمؤسسات بآليات أخرى تضمن استقلالية المثقف الحر، وتصون كرامة أصحاب الأقلام المتنزهين عن الاستجداء.

هذه الأحلام تبخرت للأسف الشديد، مع الوقت، وبالتجربة. فلا السلطة زاهدة في استقطاب المدجنين، ولا الصوت الأعلى بين أصحاب الأقلام هو صوت الأحرار. فليبق الوضع كما هو عليه، وليكن الاستثناء هو صوت الناحتين في الصخر، الذين يفرضون حضورهم على المشهد الثقافي كمغردين خارج السرب.

وعادة يتأتى لهؤلاء ذلك الحضور في وطنهم بعد تحققهم على الصعيد الدولي أولاً، قبل بزوغ نجمهم في مصر، رغمًا عن السلطة، التي لا تكتفي بعدم رؤيتهم، بل تبذل جهدها كي لا يراهم الآخرون، وربما تفرط في بذل هذا الجهد، بملاحقتهم قضائيًّا، أملاً في تغييبهم.

إن فعاليات ثقافية جادة أيضًا وحقيقية، باتت تشهدها مصر خلال الفترة الماضية، بعيدًا عن كيان وزارة الثقافة، منها مؤتمر قصيدة النثر، ومهرجان طنطا الدولي للشعر، ومهرجان القاهرة الأدبي، وغيرها من الأنشطة والمؤتمرات المهمة، بما يؤكد أن مستقبل الثقافة صار مرهونًا بالمجتمع المدني ومؤسساته الأهلية، فضلاً عن الجهود الفردية للمثقفين المستقلين.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى