الهجرة والتسلّط وحرية المرأة في أيام قرطاج المسرحية

على إثر حفل افتتاح الدورة الثامن عشرة لأيام قرطاج المسرحية، كان لجمهور المسرح موعد مع عروض مسرحية تونسية وعربية أفريقية ذات مضامين متنوّعة ومتصلة جميعها بمعيش الناس ثقافيا واجتماعيا وسياسيا.
الهجرة إلى الغرب
التقى جمهور المسرح في قاعة «الريو» في العاصمة التونسية ثمانية فنانين هم أبطال مسرحية «شقف» (القارب الصغير) في عرض فني يحكي رحلة المهاجرين غير الشرعيين من العرب والأفارقة وهم يعبرون البحر المتوسط، هاربين من سوء أحوالهم في أوطانهم حالمين بالعيش الكريم في أوروبا. وهي رحلة محفوفة بمخاطر الغرق والتيه ومحمولة في أسئلة وجودية يواجه فيها المهاجرون أقدارهم بين حياة مؤجَّلة وموت ممكن. انطلق العرض بظهور ثمانية أشخاص على الخشبة يتزاحمون للصعود على متن القارب ويتضح أنهم من جنسيات مختلفة: تونس وسوريا ولبنان وبلدان أفريقيا، كل واحد منهم يسعى إلى الهروب من بلاد نخرتها الحرب والسياسة، ومن مجتمع ظالم لا يمنح فرصا متكافئة للعيش الكريم صوب واقع غربيّ (إيطاليا) هو في تمثّلاتهم الثقافية فضاء تُحتَرَم فيه حقوقُ الإنسان وتُصان فيه كرامتُه.
غير أن ظهور عاصفة مفاجئة جعل صياح الركّاب يتعالى بسبب امتلاء القارب بمياه البحر، ولحظتها تنطلق معركة هؤلاء من أجل البقاء. وفي هذه الأثناء تتعرّى حقيقة الشخصيات ويتجلّى جوهر الذات الإنسانية في معاناتها وكفاحها وأنانيّتها وتشبّثها بالحياة، لكأن في هجرة هؤلاء الركاب إحالة إلى رحلة الإنسان الوجودية يتنازعه فيها قلق الحياة وقلق الموت.
كتبت نص هذا العمل المسرحي سيرين قنون وأخرجه مجدي أبو مطر وشارك في بطولته ثمانية ممثلين من جنسيات عربية وأفريقية هم عبد المنعم شويات والبحري رحالي وندى الحمصي وريم حمروني وأسامة كوشكار ومريم دارا وقي إيسو توسي وصوفيا موسى. وقد تكفّل بإنتاجه مسرح الحمراء والمركز العربي الأفريقي وفضاء م/ت في كندا بالاشتراك مع أيام قرطاج المسرحية.
المُحاسِبُ
في إطار انفتاح أيام قرطاج المسرحية على جمهور الأطفال، احتضن المركز الوطني لفن العرائس عرضا مسرحيا بعنوان «ريفيزور» (المُحاسِب) اقتبس نصّه الفنان مختار الوزير عن نص للكاتب الروسي نيكولاي غوغول. و»ريفيزور» هي مسرحية هزلية تم الاشتغال عليها بطريقة «برلاسك» أي الوصول بالشخصية إلى درجة الكاريكاتير بمعنى أننا لسنا أمام تطرق واقعي للأثر، وإنما نحن أمام تعديلات على بعض الشخصيات لجعلها قريبة من مخيال الطفل.
تجري أحداث المسرحية في ولاية نائية عمّ الفساد جميع مجالاتها، وفي يوم مّا يسمع الوالي عن طريق صديق ذي جاه في السلطة المركزية أن قاضي دائرة المحاسبات سيُرسَل للولاية قصد تقصي أحوالها، وفي الأثناء يزور الولاية رجل غريب فيعتقد الوالي وأعضاء مجلسه بأنه المتفقد العام، وعلى هذا الأساس يسعى الكل لإرضائه واستمالته لصالحهم، يبدو أن هذا الوضع المترف أعجب الغريب الانتهازي فيتسلم الأموال والرشاوى ويتغزل بابنة الوالي ويستغل السكان طوال فترة إقامته قبل أن ينصرف، ويعتقد الجميع بأنهم تخلصوا من المحاسبة. وفي خضم نشوتهم يبلغهم إعلام رسمي بوصول قاضي دائرة المحاسبات الحقيقي، فتنتاب الجميع حالة من الذهول والصدمة، ويظهر على الركح مارد عملاق يتضاءل الناس أمامه خوفا من المحاسبة. يُشار إلى أنّ أبطال هذه المسرحية هم أشرف الرابحي ويسرى العموري وسهيل العماري وفاتن بلحاج عمر والمالكي اللباوي وهدى العيساوي وأحمد حشيشة ومحمد البرهومي.
ثورة المرأة
حياة الصحافية والناشطة الاجتماعية اللبنانية عنبرة سلام الخالدي هي موضوع عمل مسرحي مدرَج ضمن البرمجة الرسمية لأيام قرطاج المسرحية بعنوان «عنبرة» أخرجته الفنانة علية الخالدي.
تدور أحداث هذه المسرحية في بيروت في بدايات القرن العشرين، حيث كان لبنان خاضعا لحكم الأتراك العثمانيين. ومثلما كانت بيروت تنشد شكلا من أشكال الاستقلال كانت عنبرة ترنو بدورها إلى التمرّد على قيود العائلة والمجتمع، عبر رفضها ارتداء النقاب والزواج التقليدي، فهي ترغب في أن تعيش حياتها وفق ما آمنت به من مبادئ، حيث اقتنعت في زمن مبكر بأن للنساء دورا لا يقل أهمية عن دور الرجال في النضال القومي، فشاركت في تأسيس أولى الجمعيات النسائية في لبنان، جمعية «يقظة الفتاة العربية»، وانتهت بعد مراكمة مسيرة من التجارب إلى الإقدام على خلع النقاب لأول مرة في محاضرة عامة في الجامعة الأمريكية.
تناقش مسرحية «عنبرة» مسألة تحرر المرأة العربية ضمن بناء درامي سيرذاتي ذي مضامين اجتماعية وأخلاقية وثقافية متصلة بواقعنا المعاصر الذي ما تزال فيه الأفكار البالية تحكم سلوك المرأة وتشدّها إلى الخلف مانعة عليها كلّ سعيٍ إلى التحرّر وبناء الذات، وهو ما يشي برغبة مخرجة المسرحية في تأكيد حاجة المرأة العربية الراهنة إلى ثورة حقيقية لتغيير العقليات ودحر شبح الظلامية.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى