«الرهوان»… الذات بين عنف اللحظة وسموّ الخطاب

ابراهيم الحجري

تتجلى حرقة الكتابة الشعرية في هذا الديوان «الرهوان» للشاعر السوري عبد الله الحامدي، منذ الأسطر الأولى، أو لعلها تتوضح منذ العتبات الأولية للديوان المتمثلة في لوحة الغلاف المصاحبة، والعنوان والوضعيتين البدئية والنهائية، فهي كلها توحي بوجود انفعالات شعورية متضاربة، قد تسمو حينا لتصل إلى وصف مشاعر العشق الصوفي، وقد تنهار لتصل إلى مستوى توصيف الدراما الإنسانية التي تلحق العالم، فتأتي على القيم النبيلة فيه، لتحلّ محلها قيم أخرى بديلة.
إن «الرهوان» بوصفها مقولة بؤرية، ترتدّ إليها كل المقولات الأخرى في النصوص الشعرية، تختزل الكبوة التي أسقطت فيها الفخاخُ الفارس الذي كان يصول ويجول في صحارى الوقت، فما عاد، بفعل الجراح التي أدمت كيانه، سوى كائن يحبو ليجترّ الخيبات والأحزان، في زمن يتآكل فيه الإنساني، ويتعاظم فيه الغريزي والحيواني.
متاهة الوطن؛ جراح في الداخل، جراح في الخارج:
تحضر موضوعة «الوطن» بشكل كبير في المجموعة الشعرية، وإن تعددت الصور التي تومئ إليها شعريا، فتارة تجيء بشكل مكشوف، ويعبر عنها بمؤشرات واضحة وقوية سرعان ما يكشفها المتلقي، وتأتي تارة أخرى في شكل مرموز، يستدّل عليها الباث بقرائن مشفرة، تستلزم مشاكسة المعنى، وإعادة بناء الدوالّ الواردة في النص، خاصة ما إذا كان الشاعر يؤسّس ما يقوله عن وعي مُسبق، وإدراك معرفيّ لجوهر الصياغة الفنيّة، فتكون القصيدة، بالنّسبة إليه؛ وفق هذا المنْحى، وعاءً دلاليّا يفرغ فيه مغزى قصْديّا.
يشكل «الوطن» ذاك الغائب الحاضر في الذات، فهو بقدر ما يبعد جغرافيا، يحضر وجدانيا، ويمتد مثل الجرح، كلما ابتعدت المسافة يكبر هذا الألم، ويزداد الحضور الرمزي، ينتقل الوطن من جغرافيا تضاريسية، وفضاء ماديّ ليتحول إلى جغرافيا سيكولوجية تطال الدم والخلايا، وهذا الإحساس المتدفق، في المجموعة صدقا وألما، ينبثق عن قلق الذات الباثة للخطاب الشعريّ هنا، علما بأن الشاعر يعيش بعيدا عن وطنه المادي، أم الرأس، ومنبت الروح، ونبع الذكريات الفياض، ومهما ارتحل وحلّ، ومهما سافر عبر الجغرافيات العالمية، تطارده صورة الوطن، وتظل تكبر في إطار هذا الغياب، لتتحول إلى هوس هجاسي، يحلّ في الحروف والكلمات والعبارات، فما من مقولة دلالية في النص، تكبر أو تصغر، إلا وتشتمّ في طعمها نفسا من أنفاس هذا الوطن، ورحيقه المختوم في النفس، ورائحة ترابه، وشكل تضاريسه..
تجد في طيّات الدُّفق الشّعرية ضيما مبطّنا اتّجاه الهجرة القهرية، ويبدو كأنما الوطن القاسي على أهله، هو من يهجّر المهاجرين، ويدفعهم خارج الحدود، يصوره القصيد كأنما هو أب بلا قلب، لا يحنو ولا يلين، فالتواجد فيه مثل عدمه، في ظل سيادة القهر والفقر والقمع، لذلك يترك الشاعر قلبه هناك، وينتشر بجسد خال من الروح، في أرض الله الواسعة، يرفل في أسى عميق، تجرجره الجغرافيات، وتتقاذفه القارات من واحدة إلى أخرى بحثا عن عيش كريم لم يتسن للذات الباثة للخطاب هناك، يقول الشاعر واصفا هذا التحول على مستوى الوعي بانعطاف الشعور بالوطن بين طرفيْ مفارقة عنيفة تتوزع بين القلب والجسد:
«إلى متى يا وطني
تهجرُني؟
أبحثُ عنكَ تحتَ مخدَتِي
فلا أجدُ غيرَ ظِلِّكَ
أُغلِقُ بابَ الغُرفةِ
فتخرجُ من بُخارِ فمي
وتختفي في الحالِ
إلى متى يا وطني
سوف تتوارى؟!
*
كلُّ المحيطاتِ
دموعُ الذين هاجروا
ركبوا القواربَ والسفن الثقيلة
ونسوا أنهم يطفون
على حزن الوطن».
وتحضر المأساة السوريّة بقوة في النص، سواء بشكل صريح، أو بشكل إيحائي، حيث الحرب ترخي سدولها السود على المكان والورى، وتجثم بكلكلها البغيض على الأنفس، فتضيق الآفاق، وتحصر الرؤى، وتسيل الدماء، وتهجر الأوطان، وتتوتر العلاقات الإنسانية…. تصير الحياة جحيما فوق الرّؤوس تهوي نيرانه مثل حمم البراكين، يقول الشّاعر في هذا الصّدد:
«ضعْ قطعةً من اللّيلِ
وملعقتين مليئتين بالهُدنةْ
وفكّر بالأمر مليًا
حينَ كنتَ سوريًا
واحدًا
ووحيدًا:
عربيًا وآشوريًا، نُصَيْريًا ونَصْرَانيًا، كُرديًا وإسماعيليًا، بدويًا وقُوطيًا، دُرزيًا ومَردلّيًا، أرْمنيًا وآراميًا، أمويًا وبَرمكيًا، تدمريًا وهكسوسيًا، شركسيًا ومولويًا، فينيقيًا وواقعيًا، اشتراكيًا ولازورديًا، علمانيًا وعلى باب الله..
ودعنا نفكّر سويًا:
أنا وضدي معي، وكلانا معًا ضِدنا
إن تقدّمنا تَبعثرنا، وإن تأخّرنا ضِعنا
رهينانِ في مَحبسَين
طليقانِ في مُنطلقَين
وكلانا مُنفردَين:
نرى النصر
أو القيامة؟»
– متاهة العشق؛ الوصل المؤجّل والصورة الماثلة:
في حمى البحث عن الذات خارج الحدود وبعيدا عن جغرافيا الوطن، ودفء الجو الأسري، تنتصب أمام الشاعر- الباث صورة المعشوقة كذكرى بعيدة تلوح، تشرق في النفس كوميض يحرق الذبالة المتبقية من شمعة رمتها العواصف المتأججة، ونار الحنين، ووعثاء السفر بين الطرقات الكفيفة، تلوح فتزند نار التذكر في الذات، وتكبر هوة القلق المستدام، يصير أرقا مستحيلا يقض مضجع الشاعر ويورّثه الضيم والبلوى.
لكن الهجرة كفيلة بتضييع هذا الحب مهما كان مولها، مهما كان صلبا، يذوب فوران الصبابة في قيض الطرقات والمماشي برّا وبحرا، يتيه في المطارات والمحطات، ويتلاشى صداه فيما بين المسافات. ويظل وجه الحبيبة المتعدّد، وصورتها المقبلة من الوجدان، يؤرقانه في لحظات معينة، ويطاردانه في ظل توالي الغيابات الطويلة والممتدة، ويتعقبانه، في ليالي الوحدة واشتعال الجراح، مثل عتاب القمر الحزين في الليالي المظلمة، فيزيدانه أسى وحسرة واحتراقا بلهيب الفراق والبعاد… يفكر بأي الأجوبة يمكن أن يقنع هذا الوجه الحانق، ويطمئنه بالوفاء بعد كل هاته الغيبة. يقول الشاعر معربا عن هاته الأحاسيس المفارقة:
«كعاشق عابر
أحببتُكِ كثيرًا
ورميتُ حبَّكِ للنسيان
حلمتُ بكِ
على امتدادِ المطاراتِ
والقطاراتِ
ناديتُ باسمكِ في البحارِ
وأطلقتهُ على بعضِ القاراتِ
بحثتُ عنكِ
وكنتِ دومًا معي
ركضتُ تحت الأمطارِ
وأحببتُكِ
بكيتُ مع المشرّدينَ
وأحببتُكِ
صرختُ في المظاهراتِ
وأحببتُكِ
قرأتُ الأشعارَ
وأحببتُكِ
كتبتُ الأشعارَ
فقرأتُكِ!
كان وجهُكِ يزورُني
في اللّيل
دونَ عِلْمكِ
ويضيءُ السقوفَ المعتمةَ
كان ينشرُ حزنَهُ
ويُظلّلُ الجدرانَ بالحكاياتِ:
عيناكِ
أصابعُكِ
أنفُكِ الصغيرُ كأرنبٍ خائفٍ
ظلَّ يتعقَّبُني
كظلٍّ أحيانًا
ولصٍّ أحيانًا»
وعلى ما يبدو، فالمعشوقة هنا، في «الرهوان»، قد تتخذ أبعادا وصورا مختلفة، بالانسجام مع المقول الشعري، فهي تحمل رمزيات أحيانا، تفوق رمزية المحبوبة – المرأة، لتنسحب على قضايا مركزية في التشكل الجنيني للباث، ووضعه الاعتباري، إذ بإمكانها أن تكون معادلا رمزيا موضوعيا للوطن، مثلما قد تتجاوز ذلك، إلى العشق الصّوفي للذّات والآخر، وتماهيه مع لحظة الإشراق العرفاني، وقد تكون القصيدة الهاربة منه في ضيق الانشغالات أو الكتابة بما هي قلق مقض وموجع في آن، وقد تكون هي هاته الحرية الفلسفية التي تشكل كرامة المرء في عالم متناقض، وتختصر جوهر الوجود الإنسان بتجسيد من كل الفلسفات والاديان والمعتقدات البشرية.
– متاهة الحلم: الهوية الكوكبية المأمولة شعريا:
في تناوله لإشكال الهجرة، ومعاناته ومكابداته مع طقوس العبور من مجال إلى مجال، ومن هوية إلى أخرى، يطرح 0الباث قضية الإنسان الكوني كما يتمثلها الفلاسفة والمتصوفة، حيث يرهّن المنجز الشعري «الرّهوان» مسألة التفكير في الهوية الكوكبية، بوصفها حلما مشروعا لكافة البشر، تتراءى فيه الأرض وطنا موحدا، لا فوارق بين أبناء آدم فيها، مهما اختلفت معتقداتهم ودياناتهم ومستواهم المعيشي وانتمائهم العرقي أو المجالي…
شببتُ عن الطّوق
فخنقتِني
لا تُطوقيني
بحنانكِ الناريّ!
يا أمي
مرةً تلبسينني قميصًا لا يصلح حتى للمهرّجين
ومرةً تقولين عني كلامًا لا يقوله المجانين
ولديكِ الخياطون المهرةُ في العالم
ولديك الأبجديةُ الأولى
عودي إلى رشدكِ العاطفيّ
وانشري حبكِ الكونيّ
ويأتي هذا المحكيّ الشعري بمثابة بيان ضد ما يشهده العالم حاليا من تصدعات رهيبة لا تبشر بلحظة جمالية مثلما يحلم الشاعر من منطق كونه كائنا إبداعيا ينبض بالمحبة والسلام والأمن العالميّين. وهو يؤمن بأن الإبداع مهما كان تجليه، هو المؤهل للعب دور كبير وطليعيّ في القضاء على كل أشكال العنف، وتخفيف الذوات من قلقها، وسحْب غيوم الأسى والقلق عن الباثّين والمتلقين معا، وتنقية الكون من الشّوائب المشوّشة، والعناصر المحيلة على القبح.
ويعزز الشاعر مقوله المتمركز حول الكوكبية الأرضية والسلام العالميّ ضمنيا، من خلال تبئير مشاهد الإخلال بالقيم الآدمية الرفيعة، وانتهاك الحرمات، والحدود، وقمع الحريات الفردية والجماعية، وتهجير الناس من مقاماتهم الأصلية التي ولدوا في جغرافيتها، وألفوا مناخاتها الثقافية والدينية، واطمأنوا فيها إلى ذواتهم وسلالاتهم الممتدة، وخلفهم… مستحضرا في الآن ذاته، الصّورة المقلوبة والعكسية للسكينة والطمأنينة اللتين ينشدهما الإنسان الكوكبي، خاصة أن التكنولوجيا وتقنيات الاتصال الحديثة المتطورة كلها تسير في اتجاه تقريب المسافات، وإزاحة الحدود، ومحو أسباب الخلافات الواهية. ومن بين الأدوات الّتي مهّد بها الشّاعر لهذا الحضور الإنسانيّ المفرط؛ نلفي ورود المؤشرات الدالة على القيم الرفيعة المحيلة على السّلام والمحبّة المتجسدين بمقولة «الحمام الدمشقيّ» مثل: الشعر الجاهليّ، التروبادور، الهايكو باعتبارها منجزات إنسانية خالدة في هذا الاتجاه، ولينين، ليلى العامرية، نوح عليه السلام، هشام بن عبد الملك، الأندلسيّون، الاسكندر المقدوني، داريوس، المسيح، باعتبارها رموزا تفيض بالمعنى في التاريخ البشري، وعلامات تؤثث الذاكرة الإنسانية، دون أن ننسى: مقهى الحافّة، طنجة، عامودة، غرناطة، مرسية، متردّم… بوصفها فضاءات توثق لذاكرة إنسانية باذخة.

(القدس)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى