ربما قرب حافة محمد علي شمس الدين

عبد المنعم رمضان

صدر في الأيام القليلة المقبلة “أعمال مختارة” من قصائد الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين عن “الهيئة العامة لقصور الثقافة” في القاهرة، وتتضمن الأعمال هذه، المجموعات التالية: “الشوكة البنفسجية” و”أميرال الطيور” و”منازل النرد”، وقدم لها الشاعر المصري عبد المنعم رمضان، الذي خصّ “السفير” بمقدمته.
***
في الركن الذي لجأت إليه منذ صباح ذلك اليوم الفائت، الركن المخصوص بمن أحاطتهم الغبطة، غبطة العثور على الشعر وحده، قلت لنفسي: هكذا تكون المقدمة، أن أغرس سنّ قلمي وأقلّب به جغرافيا شعراء الجنوب اللبناني، إلى أن نلهث جميعا، الشعر والجنوب وأنا، ثم أشير بخمس أصابع مفرودة إلى ظاهرة سابقة مماثلة، كأنها البرهان والدليل، وأنتظر حتى أقرأها مكتوبة على بعض شظايا الذاكرة، مكتوبة هكذا، شعراء الأرض المحتلة.
وقبل أن تنطفئ الذاكرة، أقترب وأستقبل الهواجس التي تطاردني، الهواجس إيّاها، حيث الظاهرتان غير شعريتين، حيث هما ظاهرتان من الخارج، حيث هما ظاهرتان فقط، ولما أطمئن، وتستوي الأرض تحت قدميَّ، أستعد وأطوي صفحة شعراء الأرض المحتلة، وأكتب عن الشعراء الأربعة المقدّمين من شعراء الجنوب، حسب اتفاق مؤرخي الأدب ونقاده، محمد علي شمس الدين وحسن العبد الله وجودت فخر الدين وشوقى بزيع. هكذا قلت لنفسي، إلا أنني تذكرت فجأة ما لم يغب عن بالي لحظة. تذكرت موت الظاهرتين وخروجهما من التاريخ، فترحمت عليهما، وانصرفت عنهما، وانصرفت أيضا وإلى حين عن الثلاثة الآحاد، وعن الجماعة كلها، واحتشدت كي أحتفل بالواحد، الاحتفال الذي يليق به، رغم أنني كنت ومازلت ضد التوحيد، إلا أنني، بعد كلمة التوحيد، سمعتني أقول لنفسي: هكذا سوف يبقى محمد علي شمس الدين، هكذا سوف يبقى، خاصة أنني أحب أن أميّزه بميزته التي فرضها علينا.
فرض كفاية وفرض عين، فهو الوحيد الذي جهر برفضه أن يكون ضمن ظاهرة قصاراها أنها تركب عربة العابر بخوذة وبندقية، العابر بكتاب السياسة نامه، تركبها ركوب التابع، فيما الشعر يزهو بأنه السيّد الذي لا سيّد له، والشاعر يزهو بأنه ليس الشاعر الداعية، وليس الشاعر التقني الخبير، إنه الشاعر الشامل، الشاعر المشروع، ظلّ الله وظلّ الإنسان.
الأثر المخالف
على الفور فطنت إلى أن محمد علي شمس الدين قد يكون أكبر الأربعة المقدّمين سنا، ولم أعبأ، ففطنت إلى أنه بالتأكيد صاحب أثر يخالف آثارهم، وبما أن هذا من طبائع الأمور، لم أعبأ أيضا، فقلت بصوت عالٍ، قد تكون الموسيقى المحتفى بها فى شعره، والعاملة على تلاقح كلماته المنطوقة والمسموعة بكلماته غير المنطوقة وغير المسموعة، وهى الأكثر غزارة، حيث ينشأ عالمه كله فى أثناء دورانهما حول بعضهما، الكلمة والموسيقى، كأنهما سبقا العالم إلى الوجود، ثم أوجداه، كأنهما الكلمة المكان والموسيقى الزمان والشاعر هو الشخص الهائم فيهما وبينهما. قلت بصوت عالٍ، قد تكون اللغة وهي عنده سليقة وطبع، والإيقاع، حتى ولو بغير وزن، وهو عنده سليقة وطبع، قد يكونان معاً قد حملاه على عدم الرغبة فى أية قطيعة. وتذكرت أن سنواته التالية لأول بلوغه الشعري، أول الحلم، ولقد تابعتها جميعا، كثّفت بدأبٍ حضورهما وتواشجهما، اللغة والإيقاع، وأنها، أي السنوات، لم تأخذ من شعر محمد علي شمس الدين، سوى قشرته، لكي تكشف فيما تلاها عن بُعد صوفى يخصه وحده، فالطبيعة عنده ليست الطبيعة الصامتة، ليست الطبيعة الخام، ليست اللوحة الرومانسية، ليست وقت الفراغ والنزهة، ليست الامتداد الذي يحيط بالإنسان ويغمره، ليست العكاز والعصا والناي، ليست جبران، وليست إيليا، إنها وحدة الوجود بصورة ما، وهذا ما جعل علاقة محمد بتجربة الشعراء الرواد السابقين عليه، وكذا علاقته بالأسلاف، أكبر من محض توالي الأزمنة، محض اختلاف الأمكنة، إنها تجسيد آخر لصوفية وحدة الوجود التي اعتنقها سرا وفي الخفاء، ممّا أفاده في إدراك التمايز بين الرواد أو الأسلاف أنفسهم مرة، ثم بينهم وبينه مرة أخرى. وكذا إدراك وحدة الوجود كأنها قرينة ذلك التمايز، وإدراك أنه الشاعر الذى لا يحب أن يختال أو يحتال بالقطيعة، الشاعر الذى يحب فقط أن يختال بالوصل، وينام على وسادته، ينام على ناره ونوره.
وها أنذا كثيرا ما أضبط نفسي وأنا أتمتم: ناوليني حذائي وقلبي، وبعد صمت ملئ بالشغف، ملئ بحرارة الأنفاس، أكمل تمتمتي: ناوليني العصا، أذكر أنني عندما قرأت ديوان (أناديك يا ملكي وحبيبي)، أيام أحببت مها، ثم أيام أحببت ناريمان، ثم أيام تحصّنت بعدم البوح، أذكر أنني لم أستطع أن أختصّ نفسي، وأستأثر بالنعمة والجيشان، وأننى سعيت في أقصى الليل إلى بيت الشاعر محمد سليمان، وتقاسمنا نصيبنا من المتعة، سماحة محمد سليمان أوسع من سماحتي، صحيح أنني لم أقل له، إن هذا الشعر ليس في حاجة إلى مرآة تعكسه، وأنه لا يبحث عن مرآة تعكسه، كما أن الشاعر نفسه، أعني محمداً، لا يبحث عن أية مرآة، إنه مكتفٍ بوجهه وملامح قلبه، ومع ذلك لم أقنع، ذهبت في اليوم التالي إلى الشاعر أحمد طه، وكان أيامها قريني، ليته ما زال، وتقاسمنا نصيبنا، غنائية أحمد طه أوسع من غنائيتي، صحيح أيضا أننى لم أقل له، إن هذا الشعر لا يصلح أن يكون نشيدا جماعيا، لا يصلح أن يكون نشيدا أمميا، لا يصلح إلا أن يكون بالنسبة لكل شخص أغنية نفسه، لكنني في النهاية لم أقنع.
وهكذا ظللت أتردد وحدي على الديوان، وظننت أنني مع الوقت سألج كل الأبواب، لكن أبوابا جديدة كانت تظهر لي، فأعود إلى الديوان، وأتقاسم مع نفسي المتعة، على يأس من أن تنفد ذات يوم، ولم تنفد، هل أخطأت، أظنني أخطأت، إذن سأقول على أملٍ من ألا تنفد ذات يوم، ولم تنفد، كما لم تنفد وسائلي فى البحث عن علامات محمد وشاراته، فعلى الرغم من أنني كنت أسمّي الشاعر عبد الوهاب البياتي علانية باسمٍ ظهر فجأة على لوحة قلبي يوم وفاته، مات سارق الفحم، إلا أنني انحزت للبياتي الذي سيظهر جميلا في مقالات محمد علي شمس الدين، وقلت معه: مات أبو علي، وظننت أنه، أي محمد، يعيد خلق البياتي من عدم، أو ما يشبه العدم، وظننت أيضا أنه يحسن خلقه. فعلها مرات، مع حجازي، ومع “الغيوم التي في الضواحي”، ومع “أميرال الطيور”، ومع السياب، ومعي، ومع آخرين، فيما عدا أدونيس، ربما لأنه الاسم الباقي، أو الحلم الباقي. عموما، هذه هي المهنة الأولى له، في علاقته وعلاقاته بنفسه وبغيره، مهنة إعادة الخلق، وهي أيضا مهنته الأولى في علاقته باللغة، الاجتهاد في إعادة خلقها، فها هوذا لم يقبل قط أن يغسل لغته بالمنظفات الأكثر رواجا، المنظفات المدعومة بكيمياء الحداثة أو كيمياء الروح، إنه يغسلها، وبتصميم تام، ويكاد ينقعها في مياه النبع، وينشرها على حبال قصائده التي جدلها من عروقه، يالشفافية عروقه، فإذا قرأناها أصبح فمنا مغسولا ومبلولا بمياه النبع ذاته، وإذا تصادف أن اصطحب جسده، ومشيا في الصحراء الكبرى، صحراء الداخل، داخله، أعرف أنه يتقن المشي في صحراء الداخل، داخله، إذا مشيا معا، وألحّت عليه قصيدته، انكفأ على جسده، وغسل لغته في مياه صوفية منسوبة إليه. وهو لا يخاف صحة النسب، أو غير منسوبة إلى سواه، وهو لا يخاف سواه. فإذا قرأناها، قصيدته، أصبح فمنا أعمق من الصمت، وفاكهة محمد علي شمس الدين، التي يجب على طالبها، أن يتذوقها ليلمس حلاوتها ومرارتها معا، تحفزنا على استعادة مذاقهما، وعلى الفيض والفيضان، وعلى تفضيل الوجه الغامض للمحبة، هو الشاعر المسكون بجماليات المحبة، وبعفويته، وبالزمن الممتد السيّال كله، ونحن أشباه الغجر المسكونين باللعبة، المسكونين بالوسائل والغايات، المسكونين بزمننا، فاكهته تحمل على بذورها ختم الشعر كله، الختم السري الواضح، وتحمل أيضا ختم محمد علي شمس الدين فقط، الختم الأكثر سرية، والأكثر وضوحا.
فاكهة الحلال والحرام
هكذا يختلط الختمان والاسمان، الشعر ومحمد علي شمس الدين، محمد علي شمس الدين والشعر، إنها فاكهة بلا موعد، فاكهة الحلال والحرام، الكلام والصمت، الحياة والموت، الأنا والأنا، مما يجعلنا راغبين في سرقتها، وفي الخروج بها من الجنة، لتكون فاكهتنا جميعا، ومما يغرينا بالزعم أننا نريد أن نكون شعراء مثله، بالزعم فقط، لأننا لن نقدر، لأننا أبناء القطيعة، فيكون هو صاحب البستان، ونكون نحن أصحاب البستان أيضا، ولما يشاء في ساعة استيقاظه أن يكون البستانيّ، نكون نحن البستانيين. هكذا نكتشف أن الشاعر وحده ليس المستبد، إنه المالك والمملوك، وكذلك نكتشف أن القارئ وحده ليس الخاضع، إنه المملوك والمالك، وفي اللحظة التي يصل فيها وجداننا إلى حافة ذروته، وقبل أن يتطاير إلى أعلى، لا نتردد في الغناء بصوت خفيض، خفيض جدا، هكذا على سبيل المثال: ناوليني حذائي وقلبي، ناوليني العصا، نغنى إلى أن نصل إلى كل الأماكن، نغني إلى أن نصل إلى كل البشر، خاصة الدراويش، الأصح، إلى أن يخرج علينا من زقاق في وسط المدينة، يشبه الزقاق الذي في قلوبنا، ويشبه زقاق زهرة البستان، يخرج علينا صوت الشخص الذي عرفته عاشقا لمحمد، كأنه ليل مخبوء، كأنه صوت الشاعر الذي يخفي عن قصد اسمه الحقيقي، في ثنايا اسم يدّعيه: أحمد إمام، وعن قصد ثانٍ يخفي اسم بلدته الهائمة في عيونه، تحت اسم آخر يدّعيه لها: كفر الزيات، ثم بأريحية يخفي لغته تحت غطاء لغة أعجمية يدّعيها ولا ينطق بها أمامنا، كأنها رجسه، أو كأننا الرجس، لكنه يظهر عشقه لشعر محمد، ولا يضعه في إناء، ولا يضع الإناء في زجاجة، يكتفي بالنشوة، يخرج صوت الشاعر من الزقاق، ويلاحقنا، كأنه صاعد من البئر فنحني رؤوسنا، عندها فقط نحس أنه صاعد من البئر، ولما نتريث، يخايلنا ثانية، وإذا أدركناه، وتبعناه، وردّدنا معه صلواته، لفَتَنَا إلى جسدانية شمس الدين فنلتفت، ولفتنا إلى عرفانيته، فنلتفت، وإلى نظافة ثوبه من غبار الوقت، فنلتفت، وإلى نظافة قلبه من غبار الصمت، فنلتفت، ويتحرج أن يخبرنا أننا إذا فعلنا ذلك، سيروقه ويروقنا أن نجمع الكتب التي تتساقط منه عمدا كي نلتقطها، هكذا هكذا: الشوكة البنفسجية، اليأس من الوردة، غيم لأحلام الملك المخلوع، نجوم في المجرة، ممالك عالية، منازل النرد، كتاب الطواف، النازلون على الريح … الخ الخ، فإذا انتهينا من الالتقاط، وقف أحمد إمام، وهو طويل نحيل خفيض الصوت، ووجهه وجه مريض بالأمل، وقف وأوقفني، وبعد ابتعاده عني خطوتين، قال لي: الجمال التام انسداد أفق, والجمال الناقص حافز على الإبداع, لماذا لم تؤاخذه؟ قلت: إنها المقدمة، قال لي: لماذا إذن استهللت تفكيرك بالكتابة عن الشعراء الأربعة، شمس الدين والثلاثة الآخرين، أليست المقدمة مخصوصة به وحده، ساعتها، كنت قد اكتشفت كيف أنني زعمت لنفسي ضرورة الحرص على ألا أنفرد بمحمد، ليس لأن جماعته تشبهه، أو أنه يشبه جماعته، كما لو كانوا قطيعا من الريح، ولكن لأنهم بدأوا من مكان واحد، تمنيت أن أتحسسه ثم أرسمه في قلبي، أعني المكان، وبعد أن رسمته بإتقان ناقص، لاح لي أنهم، أعني الأربعة، لما افترقوا، ذات مرة مبكرة، وهرولوا جميعا، لم يكن محمد أسرعهم إلى مكانه الخاص، لم يكن يهرول، لأنه عرف منذ اللحظة الأولى، لحظة البدايات، أن مناخا رديئا سيحاصرهم، وأن تسمية خاطئة ستلتصق بهم، وأن مكانه الخاص، هو مكانه الأول، فلم يفعل سوى أن ابتسم، وشرع يعمّق مكانه، عمِّق الحفرة يا حفَّار، عمِّقها لقاعٍ لا قرار.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى