ذكرى حبيب: هل يستعيد أبو تمّام تمثاله في الموصل

منصف الوهايبي
أكاد أقرّر باطمئنان كبير، وبعد معاشرة للشعر قراءة وكتابة، أنّ أيّ مفهوم كلّيّ للشّعر؛ هو حكم تأليفيّ بَعْديّ، لا يعدو أن يكون غير ظلّ لبعض القصائد. وشأنه شأن الظلّ يرسم تقاليب الضّوء، ولا يستقر ّ على حال، ولا يلبث البتّة في المكان نفسه، وإنّما هو في تحوّل أبدا، بل يغيض في العتمة كلّما غابت الشّمس وأقبل اللّيل. كذلك مفهوم الشّعر كلّما انتقلنا من شاعر إلى آخر؛ يغيض أحيانا كثيرة في عتمة القصائد. وبعبارة أخرى هل مفهوم الشّعر غير صيرورة الشّعر وهو يقول نفسه في «تاريخ الشّعر»، وهذا تاريخ مفتوح أبدا ما دام الشّعراء يقولون الشّعر.
هذه كوّة أولى في شبكة القراءة، أطلّ منها على شاعر، لعلّي أحببت تجربته معلّما باحثا، أكثر ممّا أحببتها متعلّما.
ترجع صلتي بأبي تمّام إلى السّتّينيات من القرن الماضي، وأنا تلميذ في المرحلة الثّانويّة؛ فقد أشار علينا بعض أساتذتنا ممّن لهم بصر بالشّعر القديم وذوق في تقديره، بقراءة ديوان أبي تمّام. وأحسبهم نبّهونا إلى ما يحفل به من ألوان البديع ودقيق المعاني. غير أنّي لم أستجب له استجابتي لشعر المتنبّي، ولا كان بإمكاني أن أقف على قيمته الفنّية؛ وإن كان ما حصّلته منه، وهو قليل، قد ثبت في الذّاكرة، وأبقى على شيء من الأنس به.
وربّما زهّدني في أكثر شعر أبي تمّام، في ذلك الزّمن البعيد، أمران:
أحدهما ما يشوبه من غريب يحسر الفكر ويكدّ الذّهن. ولم يكن زادي اللّغويّ والنّقديّ، ليوطّئ السّبيل إليه، أو يفسح لي مساربه ومضايقه.
والآخر أنّي كنت منصرفا في تلك الأعوام، بتوجيه من أستاذنا الرّاحل محمّد الحليوي إلى شعراء الشّام والمهجر. فكان من الصّعب عليّ أن أتعامل مع شعر الطّائيّ بنظرة «مغسولة» من ذكرى هؤلاء الوافدين على شعر العرب في بدايات القرن الماضي؛ وهم الذين خرجوا به، وإن في كثير أو قليل؛ عن مألوف مداراته. وربّما جعلوني، بسبب من ذلك، أتوهّم أنّ شعرهم «الجديد» إنّما يقع في خسوف ذاك «القديم» الغابر.
هذا بعض من «شهادة» لم أرَ داعيا إلى توسيعها في مفتتح رسالتي الجامعيّة (دكتوراه الدولة ناقشتها عام 2006 وتصدر هذا العام)، ومثل هذه الرسائل لا تعبأ بمثل هذه الشّهادات؛ وهي التي تلزم صاحبها أن يرتدي قناع التّجرّد والموضوعيّة ـ وبيني شاهدا وأبي تمّام مشهودا فيه، حجب من الزّمان كثيفة، وشتات من أفكار ورؤى وانطباعات تتردّد في أنحاء من الذّاكرة. ولعلّها أن تكون مادّة لنصّ من نوع آخر. وإنّما أتيت ما أتيت لعلاقةّ بأبي تمّام «قلقة» من جانب، «قصديةّ» من جانب آخر. فهي معقودة على تغاير أزمنة قراءاتي في شعره: قراءة «واجب» نهضت بها في حلقة دراسيّة لطلبتي، فقراءة «متعة» وبحث منذ أن التزمت صحبته، في رسالتي هذه، وغنمت كثيرا من صداقة نصّه، وما إلى ذلك من مواقع قراءته ومواقيتها. وهو[حبيب بن أوس] الذي صحبني في رحلاتي وأسفاري أعواما طوالا: معا استقبلنا الأستاذ خلف رشيد نعمان في بيته في بغداد، وأطلعني على صورة من مخطوطة ابن المستوفي» النّظام في شعر المتنبّي وأبي تمّام «، ووجّهني إلى قراءتها، وأهداني الأجزاء الثّلاثة من شرح الصّولي، بتحقيقه؛ وهو العمل الذي حاز به شهادة الدّكتوراه. ومعا [أنا وحبيب] صحبتنا الرّاحلة ألفت الرّوبي إلى دار الكتب المصريّة في القاهرة، وهي توصي العاملين فيها خيرا بي. ولم يكن لي من هدف سوى الاطّلاع على مخطوطة ابن المستوفي في أصولها. ومعا دخلنا عام 2003، الجامعة الحرّة في بورتو في البرتغال، لأطّلع على أطروحة الرّاحل السوري فهد العكّام «شعريّة أبي تمّام مبدع اللامألوف عند العرب»، بعد أن أعياني طلبها في باريس، إذ لم أعثر عليها في أيّ من مكتباتها الجامعيّة ؛ حتّى أعلمني الأستاذ والشّاعر التونسي الطّاهر البكري المقيم في باريس ـــــ وأنا في بورتو ـــــ أنّها موجودة منذ وفاة صاحبها؛ حيث كنت، لسبب لا يدريه. وكنت قد تعرّفت إلى الأستاذ فهد العكّام صائفة 1989 في ملتقى الشّعر العربيّ/ الفرنسيّ، في صنعاء، حيث كان يعمل في جامعتها. وكان أستاذه المشرف المستشرق الفرنسيّ المعروف أندريه ميكال معنا في الملتقى، وهو الذي حدّثني عن رسالة العكّام، وقدّمني إليه عندما جاء إلى زيارته في الفندق. وقد اعتذر الرّاحل عن مدّي بنسخة من الرّسالة، متعلّلا بأنّها لا تزال مخطوطة، وأنّ بإمكاني الاطّلاع عليها في مكتبة جامعة السّوربون الجديدة، باريس. وأذكر أنّ الصديق الشاعر المغربي المعروف محمّد بنّيس، وكان معنا في هذا الملتقى، أوصاني بقراءتها.
على طريق كهذه، لم تكن كلّها سالكة، انعقدت صداقتي بنصّ الطّائيّ، بل لعلّي – إذا استدعيت المقابل الإغريقيّ – على نحو ما يغرم بذلك بعض أهل الفلسفة ـ وتمثّلت بدلالة لفظ aporia من حيث هي «الطّريق الذي لا يفضي إلى أيّ مكان»، ألفيتني بقراءتي فيه أسلك مثل هذه الطّريق. صداقة معقودة على الشّعر أكثر ممّا هي معقودة على البحث، بل لعلّها معقودة على «الخطأ»؛ إذ لم تكن «الحقيقة» ــــــ على ما يتهيّأ لي ـــــ من مقاصد الطّائيّ وهي التي كانت، لقرون، مبعث سجال وتفكير في مدوّنة البلاغة والنّقد العربيّة، وكان نصّه أحد أهمّ قوادِحِها. ومقاصد «الخطأ» في هذا النّصّ، إنّما ترجع في غيض من فيضها، إلى طابعه الاستثنائيّ الذي أشاد به القدامى والمعاصرون على اختلاف منازعهم. فأبو تمّام عند الصّولي «رأس في الشّعر، مبتدئ لمذهب سلكه كلّ محسن بعده، فلم يبلغه فيه، حتّى قيل : مذهب الطّائيّ…». هو «ذكرى حبيب» عند أبي العلاء؛ ولعلّها -على ما أرجّح – إشارة لطيفة منه إلى «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل»؛ وما أكثر ما بين الطّائيّ والملك الضّلّيل! وهو كتاب مفقود، وقد وجّهت ابنتي زينب في رسالة الماجستير بإشراف زميلي الأستاذ الهادي العيّادي، إلى استخراج ما تبقّى منه، استئناسا بالتبريزي وابن المستوفي خاصّة. وقد أنجزت ذلك، ووعدت كلّية الآداب في القيروان، بنشره.
وهو [أبو تمّام] «أشعر من المتنبّي وغير المتنبّي» عند ابن الأثير، و»أوحد عصره» عند يوسف البديعيّ… أمّا عند المعاصرين، فقد كان فاتحة عصر من الكتابة، جديد. فهو «أعظم ممثّل لفنّ الباروك» عند عبد الكريم اليافي. و»حدّ فاصل» عند أدونيس «كان الشّعر قبله قدرة على التّعوّد والألفة فصار بعده قدرة على التّغرّب والمفاجأة». و»أخو موقف فلسفيّ من الأشياء، جعله يفترض عليها الافتراضات ويبدع الحيل الذّهنيّة والنّفسيّة ليخرّجها تخريجا لم يسلف قبلا إلاّ لماما أو أنّه «بكر شبه تام» عند إيليا الحاوي. وشعره «ذو لبس دلاليّ، وهذا اللّبس هو أحد الخصائص الجوهريّة للحداثة…» عند كمال أبو ديب. وهو عند الأستاذ حسين الواد صاحب ديوان جامع، إذ خصّ شعره بـ»الاختيارات اللّغويّة المتباعدة المتنوّعة فجاء واغلا في الأسسِ الأوائلِ التي انبنى عليها إنشاء التّسمية مستدركا على النّظام اللّغويّ بالتّشبيه والاستعارة واللّفظ الغريب الوحشيّ باسطا مدى قدرته على استعمال المأنوس الأهليّ والعامّيّ المبتذل محتفيا بالواضح متغلغلا إلى الغامض». ومثلما انعقد نصّ الطّائيّ على «شعريّة الخطأ»، وكان «الخطأ» لديه يولّد «الخطأ»؛ كانت القراءة في شعره تولّد القراءة، منذ أن تصدّى الصّولي لشرحه، وهو، فيما يبدو، أوّل شارح له؛ إلى هؤلاء الذين ذكرت، وغيرهم ممّن أحلت عليهم في متن رسالتي؛ أمثال طه حسين ومحمّد مندور ومصطفى ناصف ومحمود الرّبداوي وعبده بدوي وسعيد مصلح السّريحي… ذلك أنّ فعل الكتابة عند الطّائيّ معقود على مفارقة عجيبة: فهو معارضة الإبداعيّ للدّينيّ؛ إذ يحاول أن يماثل فعل التّقدير الإلهيّ، من جهة؛ وهو فعل تعمية أكثر منه فعل إبانة، من جهة أخرى. حتّى لكأنّه حدث يخترق ما استقرّ من المعاني، ويجعل من الكتابة تأويلا على تأويل؛ وخطابا على خطاب، أو أنّ الشّاعر رحّالة في غير طريق المعنى على نحو ما تمهّد عند أسلافه. وكأنّه يفعل بالكتابة ما ينبغي فعله؛ أي ضدّ الكتابة نفسها. وربّما كان هذا الصّنيع هو الكتابة عينها، أعني تلك التي يشقّها الاختلاف في صميمها.
فهي نفسها، وغير نفسها في آن. وتلك -على ما أقدّر ـ «أبوريا» الكتابة التي يدفعنا إليها وإلى مضايقها نصّ أبي تمّام.
٭٭٭٭٭ أفاد شهود أنّ « عناصر تنظيم داعش، قاموا، مساء الخميس 19/6/2014، بإزالة تمثال الشاعر الموصلي المعروف: أبو تمام؛ عن طريق جرّافة، في منطقة باب الطوب وسط الموصل».
(القدس العربي)