‘رايش والتحليل النفسي… أضواء على سيرته الذاتية والعلمية’ في حلة جديدة

محمد الحمامصي

صدرت طبعة جديدة منقحة من كتاب “رايش والتحليل النفسي… أضواء على سيرته الذاتية والعلمية” للكاتب العراقي قيس جواد العزاوي.

وكان الكتاب صدر لأول مرة منذ أكثر من ثلاثين عاما.

وطلب العديد من المهتمين بالتحليل النفسي من المؤلف أن يولي اهتماما جديدا بهذا الكتاب وأن يعيد طبعه بعد نفاذ الطبعة الأولى منذ سنوات طويلة.

ويسلط “رايش والتحليل النفسي… أضواء على سيرته الذاتية والعلمية” الضوء على حياة العالم ومحلل النفس الأسباني ويليام رايش وعلى موقفه من التحليل النفسي. كيف انضم لحركة التحليل النفسي ومن أي باب ولج فيها؟ وكيف تميز داخل الحركة وقاد اتجاه الفرويدية المطورة مؤسساً المدرسة الفرويدية – الماركسية؟ وما الذي أدى به إلى الخلاف مع فرويد؟ وهل كان ذلك خلافاً ثانوياً أم جوهرياً؟ ولماذا طرد رايش من حركة التحليل النفسي وإلى أين انتهى؟.

إنها أسئلة كثيرة، وكثيرة جداً، سعى المؤلف للإجابة عنها دون أن يغفل خلاف رايش مع الحزب الشيوعي. ولا كيف انتقل إلى تبني فكر معاد للشيوعية. وما الذي دفعه للانتقال من الشيوعي الراديكالي إلى رجل العلم المعادي للسياسة والسياسيين.

وأشار العزاوي إلى رايش لم يكن مفكرًا أو محللاً عاديًا، فقد برع في شتى الميادين النفسية والبيولوجيا والفيزيائية والسياسية وعلم الجنس، وقد وضع عنها وحولها مائة وستة وعشرين كتاباً، وفضلاً عنها كتب عشرات المقالات، وأسس العديد من المراكز العلمية والمختبرات، كما افتتح في ألمانيا والنمسا مجلات متخصصة في بلدان متعددة، ووقف يحاجج فرويد ويرد على يونج، ويحاور لينين ويتحدى ستالين، ويقف بشجاعة بوجه الفاشية الألمانية.

ولفت إلى أن رايش رجل موسوعي متعدد الاهتمامات، همه الوحيد منح السعادة لمن لم يحظ بها، وبناء مجتمع دون عقد أو اضطهاد، مجتمع غير قمعي ولا فوضوي، يجد فيه الجميع قدرًا معقولاً ومتساويًا من العدالة، مجتمع تختفي فيه مخلفات القهر من أحقاد وأمراض، فالمرض النفسي ليس استعدادا فرديا للاختلال في مواجهة البيئة المحيطة فحسب، بل أنه وقبل كل شيء يحدث بسبب هذه البيئة ونتيجتها، لذلك يجب أن لا يقع العلاج على الفرد، بل على المجتمع ككل.

ولتعميم هذه الأفكار لم يكتف رايش بالتنظير، بل ذهب إلى الممارسة الجماهيرية في ضواحي فينا وبرلين وفي أجواء مشحونة سياسيًا واجتماعياً، وفي عالم صراعات وحروب محلية ودولية وتمزقات لا حصر لها.

ورأى العزاوي أن رايش كان ألمع من سيس التوق للصحة النفسية والسعادة، و”كان يناضل في العيادات الجنسية لعدم الكبت والحرمان ويطالب بحرية الاجهاض. وعلى المستوى الوطني يطالب بتحالف القوى الاشتراكية لمنع صعود النازية، وفوق كل ذلك يعمل لإيجاد طريقة علاجية كفيلة وقادرة على مواجهة آلاف المرضى النفسيين على أن تكون غير مكلفة.. إن استغراقه في هذا الأمر دفعه لعزل نفسه عن المحللين التقليديين الذين يرفضون التعامل خارج الطبقة التي ينتمون إليها ولا يمارسون سوى تقنية مفرطة بالطقوسية للمفاهيم الفرويدية العلاجية.

وقال “في البدء كان فرويد فخورا برايش ودفاعه المستميت عن الليبيدو التي هاجمها كل من أدلر ويونج. ولقد وجد فرويد برايش رأس الحربة التي يشهرها بوجه الخارجين عن النظرية الجنسية ولكن رايش الذي صقلته التجربة في العيادة النفسية وفي البحث عن أنجح سبل تطوير العلاج النفسي لم يعد ذلك الشاب المستمع دون اعتراض، فقد كون بشكل مستقل نظريته السيكولوجية وأصبحت له طروحاته وعليه الدفاع عنها، فالجنس لم يعد كلمة يقصد بها علاقات الحب بوجه عام، بل أن ريش خصص رأيه فقال بالتناسلية كي يكون مباشرا دون مواربة، وهذا لا يعني بأنه أنكر بعض المظاهر غير التناسلية للجنسية. ولكنه جعل لها دورا هامشيا حين قرر بأن العصابي يسقط مريضا بسبب الاضطراب أو بالأحرى بسبب عجزه عن تحقيق لذة جنسية مشبعة.

ولقد أطلق رايش على اللذة الجنسية كلمة “الأورغازم” وعرفها بتعبيرات اقتصادية حين قال “بأنها القدرة على التفريغ التام لكل الإثارة الجنسية المحبوسة خلال التقلصات اللذية اللاإرادية”.

لم يكن ذلك سوى اجتهاد في نظرية فرويد عن الجنسية التي أرساها في كتابه “ثلاث مقالات في نظرية الجنسية” ولكن نقطة الخلاف التي تعاظمت يوما بعد يوم بين فرويد ورايش هي إصرار رايش على أن الليبيدو غير المفرغ يؤدي إلى الأمراض النفسية أو الجسمية. وطالما وأن التناسلية هي الداء في الأصل لذلك يجب أن تكون هي الدواء أيضا ومعنى ذلك أن يكون هذه العلاج هو التناسلية”.

وأضاف العزاوي أن من يقرأ أبحاث رايش ومقالاته حتى صدور أول كتاب له حول وظيفة الأورغازم سيجد أن الأولوية الخاصة قد أولاها ريش للكشف عن مغزى الاضطرابات التناسلية وعواقبها على الحياة النفسية للفرد، “لم يكن القمع الجنسي الذي يتحدث عنه رايش دون بعد اجتماعي صميمي، وقد ربط رايش منذ البدء بين الأمراض النفسية والاضطرابات التناسلية، وإن ربط هذا الأخيرة بالقمع الاجتماعي الذي تمارسه الحضارة الغربية. وهكذا دخل عالم السياسة من أوسع أبوابه.

وهذا بالضبط ما عبر عنه رايش حين مقالته عام 1921 عن مفهوم الليبيدو من فوريل إلى يونج”.

فقد كتب يقول “استطاع أوغست فوريل أن يعرف جميع الصعوبات الجنسية الأساسية التي تمد جذورها في نمط المعيشة السلطوي. وذلك دون أن يفهم، أي أوغست فوريل، والحق يقال الأسباب الاقتصادية العميقة للبؤس الجنسي، وينتج عن ذلك أن ملاحظات أوغست فوريل تفضي إلى تأوهات وبكائيات أكثر مما تؤدي إلى تدخل علمي”.

والاتجاه العدواني ـ حسب ريش ـ ما هو إلا انعكاس لثقل تراكم الرغبات المكبوتة في اللاشعور، إنه صورة خارجية عن الليبيدو المكبوت، لأن قمع الرغبات الجنسية إنما يضاعف قدرة العدوان، وهكذا تتحول الطاقة الجنسية المكبوتة إلى طاقة تدميرية.

وقال في كتابه “الثورة الجنسية” أن التحليل النفسي بمقدار ما يحتفظ بانتسابه إلى الثقافة الأبوية الرعوية، فإنه يقوم بذلك على حساب عمله هو ذاته، النزاع بين المفاهيم الثقافية الأبوية الرعوية للمختصين في التحليل النفسي، من جهة، وبالنتائج العملية التي تكافح ضد هذه الثقافة من جهة أخرى. ويقوم هؤلاء المحللون النفسيون بحل النزاع لصالح الرؤية الأبوية الرعوية للعالم، وحين لا يتجاسر التحليل النفسي على قبول عواقب اكتشافاته، فهو يستعين بذكر الطابع اللاسياسي المزعوم للعلم. في حين أن كل مرحلة من مراحل نظرية التحليل النفسي وممارسته تضع قيد البحث نتائج سياسية.

إن تأكيد الانتماء إلى الثقافة الأبوية وإدامة نظام الأسرة والابقاء على التقاليد والأعراف الاجتماعية ذاتها ومعالجة العصابي الخارج عن المثل من خلال تحويل “أناء” المتمرد إلى “أنا” طيع، ومتكيف مع المجتمع. أليست كل هذه العملية؟ أو ليست هي محاولة للإبقاء يشكل متعمد على أدوات القهر والكبت ومسببات الأمراض النفسية؟.

ويستطرد رايش في مواقفه ليصل إلى عقدة أوديب التي قال عنها “إن غقدة أوديب التي اكتشفها فرويد ليست وحدها السبب وراء مترتبات القمع الجنسي على الطفل الصغير، فالوالدان هما في حقيقة الأمر من خلد بشكل لا شعوري مآرب المجتمع السلطوي”.

كما يرى رايش بأن ممثلي الوطن والأمة يمتلكون مراكز محصنة في المركز الانفعالي الذاتي للفرد، إنهم في ذاتيته الأزلية، يمارسون ضغوطاتهم من خلال الأم والعائلة، فالشعور الوطني مثلا هو نتيجة مباشرة للصلة العائلية التي تمتد جذورها في الصلة الأبوية الراسخة.

ولا ينسى رايش التأكيد على أنه يجب الحذر من تفسير ذلك على أساس بيولوجي لأن التعلق بالأم هو نفسه في نطاق إدامته للتعلق بالعائلة والوطن هو من نتاج المجتمع.

ورأى العزاوي أن دراسة رايش المعمقة لكل من باخ أوفن، مورغان، انجلز وأخيرا مالينوفسكي وصل إلى أن “فرضية عقدة أديب تصلح على جميع أشكال المجتمع الأبوي لكن صلة الأطفال بالأهل حسب أبحاث مالينوفسكي في المجتمع الأمومي مختلفة لدرجة أنها بالكاد تستحق هذه التسمية، تبعا لمالينوفسكي فإن عقدة أوديب هي واقعة مشروطة اجتماعيا، يتغير شكلها مع بنية المجتمع. ويتحتم على عقدة أوديب أن تزول في المجتمع الاشتراكي، بسبب زوال الأرضية الاجتماعية وهي الأسرة الأبوية بسبب فقدان حقها في الوجود”.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى